تتميز الطقوس والعادات المرتبطة بإحياء رأس السنة الأمازيغية، التي نحيي ذكراها أل 2971، عبر ولاية بومرداس بالجزائر، بثرائها وتنوع مضامينها ومقاومتها للاندثار والزوال بفعل عوامل الزمن والإنسان.
ولعل لهذا الثراء والتنوع من منطقة لأخرى عبر إقليم الولاية وغناه بالمعاني والقيم التي تمتن الأواصر الإجتماعية والأخوية والتضامنية، الفضل الأكبر في مقاومة البقاء وإستمرارية هذا التراث المادي واللامادي إلى اليوم.
وبفضل ذلك، أيضا،بقي جزء هام من هذا الموروث الثقافي راسخ في الأذهان والسلوكات من خلال الحرص على إحيائه وتناقله من جيل لآخر، بالرغم من متطلبات العصر الحديث المتميز باكتساح شبكة التواصل الإجتماعي لكل المواريث والقيم والعادات والإرتباطات الإجتماعية.
“تراز” و”سبعة عشاوات” برأس جنات وبرج منايل وسيدي داود
وتتجلى أبرز المظاهر الإحتفالية بهذه المناسبة التاريخية، خاصة عبر الجهة الشرقية من الولاية لاسيما ببلديات رأس جنات وبرج منايل وسيدي داود، حسبما ذكره عدد من الساكنة، على غرار الحاجة قماز فطيمة (80 سنة) من منطقة “السخاري” ببلدية رأس جنات، في تصريح لوكالة الانباء الجزائرية، بإقامة إكرامية أو وعدة “تراز” أو “تريزة”.
حيث يقوم رب العائلة عشية رأس السنة الأمازيغية، تضيف الحاجة قماز “التي لا تزال تتذكر تفاصيل مثل هكذا عادات من خلال حرصها على إقامتها وتوصيلها لأجيال من عائلتها وجيرانها” بإقتناء من السوق المحلي كل أنواع الفواكه الجافة أو المكسرات كاللوز والجوز والبندق والبلوط وتقوم ربات البيوت بمزجها وخلطها.
وفي ليلة رأس السنة، تقول الحاجة قماز، يتم تنظيم تجمع في ساحات المنازل على الهواء ويستدعى إليها إلى جانب كل أفراد العائلة، الجيران والأقرباء وحتى ساكنة القرية المجاورين وتوزع عليهم هذه الإكراميات في جو من المرح والأفراح.
كما يحرص سكان الجهة الشرقية من الولاية في نفس هذا الإطار، خاصة العائلات الميسورة الحال، تبرز الحاجة قماز، على إحياء هذه المناسبة ونقلها من جيل لآخر من خلال إعداد لسهرة رأس هذه السنة، مأدبة عشاء مشهورة باسم “سبعة عشاوات” حيث يتم فيها إعداد سبعة أطباق مختلفة عن بعضها في المائدة الواحدة ويستدعى إليها الكبار والصغار والأقارب والجيران وغيرهم من أفراد القرية.
وتقوم ربات البيوت في الصباح المبكر من ذلك اليوم، إستنادا إلى الحاجة قماز، وبعد التزين بالحنة واللباس والحلي التقليدي، بإعداد هذه الأطباق التي يأتي على رأسها طبق الكسكسي (سكسو) بالمسفوف أو الزبيب أو الشرشم (طحن مادة القمح) مرفوقا بمرقة غنية بالخضروات ومزدان بالدجاج المطهي إلى جانب توزيع دجاجة مطهية بالكامل على كل فرد من أفراد العائلة ومن المدعوين.
والمغزى من طهي دجاجة لكل فرد من أفراد العائلة، توضح السيدة قماز، هو جلب الخير والبركة للعائلة على مدار السنة الجديدة خاصة وأن الفاتح من يناير مقرون بختام موسم الحرث والبذر وبداية الموسم الفلاحي الجديد الذي يأملون أن يكون جيدا من خلال تهاطل الأمطار.
مأدبة ب”السردوك” و “تويزة” ببني عمران وشعبة العامر وتيمزريت
ومن العادات المشهورة بالمنطقة الشرقية من الولاية, خاصة عبر بلديات عمال وبني عمران وشعبة العامر وتيمزريت, حسب التوضيحات التي قدمها ل/وأج المتخصص في تراث المنطقة ورئيس “جمعية السواقي” المتخصصة في المجال, بلعباس رابح, حرص ربات البيوت المتوسطة الدخل في هذه المناسبة على إعداد مأدبة عشاء تقليدية معروفة بالمنطقة يكون أساسها لحم الديك (السردوك).
تتمثل الأطباق الأخرى التي تتزين بها الموائد في هذه المناسبة, يضيف السيد بلعباس، في كل من “البغرير” و”المردود” (البركوكس) و”الشواط” معهم “المسمن” و “العصيدة” بالسمن والدهان إضافة إلى الشرشم.
وفي ليلة رأس السنة يقوم الأطفال برفع الشموع كفأل عن سنة فلاحية مضيئة والقيام بحفلات من خلال الطبل ويمدحون ويغنون وكأنه عرس كبير.
وتتجلى هذه المظاهر كذلك من خلال تحضير مجموعة أخرى من الأطباق التقليدية التي يكون أساسها الزيتون سواء لزينة المائدة أو مدمجة في الطهي مع أكلات مختلفة، مع الحرص على الطهي بزيت الزيتون إضافة إلى أطباق متنوعة من الحلويات المزينة بالعسل.
وتتميز هذه المنطقة من الولاية، إستنادا إلى السيد بلعباس رابح، بتنظيم فعالية “التويزة” حيث يتم جمع عدد من رؤوس البقر يتبرع بها محسنون تنحر بحضور كل أهالي القرية وتقطع إلى حصص وتوزع على الفقراء والمحتاجين من سكان القرية وخارجها.
ولا تزال من جهة أخرى، ربات البيوت بمناطق مختلفة من ربوع الولاية على الرغم من التحول الكبير الذي طرأ على المجتمع، تولي أهمية بالغة لتزيين الأيدي بالحناء في مثل هذه الأعياد والمناسبات حيث تسبقها إقبال كثيف منهن على شراء هذه المادة التزينية التقليدية مع حرص الكثير منهن على اختيار المنتج المحلي المعروف بجودته عن المستورد لتزيين نفسهن وبناتهن وخاصة المواليد الجدد إضافة إلى اقتناء ولبس ما يعرف ب”جبة القبائل”.
ولا تقتصر مظاهر هذا اليوم على تلك التقاليد فقط بل تتعداه, استنادا إلى الباحث في علم الأثار بلعباس رابح، إلى أبعاد اجتماعية وتربوية أخرى يسري مفعولها على مدار أيام السنة وتتجلى أهمها في حرص أبناء هذه المناطق على المشاركة وإشراك كل أفراد العائلة بما فيهم الشباب والنساء الطاعنات في السن في حملة جني الزيتون حيث يتركون أشغالهم جانبا ومنهم من يأخذ عطلته السنوية من أجل التفرغ كليا لهذه المهمة العائلية النبيلة.