الحسين ايت باحسين
تسمية الأكلة
ألأكلة تسمى “تاكَلاّ” (بالجيم المصرية)، ويطلق عليها في مناطق أخرى “تاروايت” (وهذا الإسم الأخير اشتق من فعل “روي” الذي يعني بالأمازيغية “حرِّك” لأن الوجبة، أثناء طبخها، تستوجب تحريكها باستمرار إلى أن تكون قابلة للأكل. وتسمى عند الناطقين بالعربية “العصيدة” (Bouillie بالفرنسية).
أنواع الأكلة:
ومن بين أنواعها: “تاكَلاّ أو تاروايت ن تمزين” (بالزاي المفخمة)؛ ومعنى هذا النوع، بالأمازيغية، “عصيدة الشعير” أي المهيأة من دقيق الشعير؛ والنوع الثاني: “تاكَلاّ أو تاروايت ن ؤسنكَار” (بالجيم المصرية) ومعنى هذا النوع، بالأمازيغية، (عصيدة الذرة) أي المهيأة من دقيق الذرة؛ وقد أصبحنا نجد نوعا جديدا يسمى “تاكَلاّ ن رّوز” أي المهيأة من حبوب الروز…
مكونات وكيفية تحضيرها (إسم الأكلة مؤنث في اللغة الأمازيغية):
– مقدار ما يستلزمه عدد الأفراد الذين سيتناولون وجبتها من دقيق الشعير أو الذرة المفتت (أي غير المطحون والمسحوق جيدا)،
– مقدار من الماء يشكل 3 أضعاف مقدار الدقيق،
– قليل من الملح،
– قليل من زيت الزيتون أو من زيت أركَان (كلمة “أركَان” تنطق بالجيم المصرية)،
– يوضع الكل في قدر فوق النار ويحرك باستمرار إلى يَمُصَّ الدقيق الماء كله فيوضع في الإناء الذي سيقدم فيه،
– أثناء طبخ تاكَلاّ، تتم عملية تذويب قليل من السمن مع قليل من الزعتر أو الزعفران.
كيفية تقديمها :
– تفرغ الوجبة في إناء يطلق عليه اسم “تاقصريت” وهو إناء ذو شكل دائري، غالبا ما كان هذا الإناء يصنع من خشب العرعار أو غيره من أنواع الخشب الجيدة ويصنع أيضا من الطين أو من معدن خاص بأواني الأكل،
– يشكل في وسط الوجبة حوض صغير أو حفرة صغيرة،
– يصب في الحفرة السمن الذي ثم تذويبه مع الزعتر أو زيت الزيتون أو زيت أركَان الممزوج بالعسل؛ وقد يوضع صحن صغير في تلك الحفرة وسط الوجبة وبه نوع أو أنواع مما تمت الإشارة إليه من إدامات؛ وذلك حسب الذوق أو وفق ما هو متوفر لدى الأسرة،
– وتقدم الوجبة ساخنة وتؤكل مرفوقة باللبن أو شاي ممزوج بالزعفران،
– مع نشأة الحركة الأمازيغية عرف تقديمها نوعا من العصرنة، وذلك بتزيين الوجبة بمنتجات طبيعية مثل البيض المحلي وحبات اللوز البلدي ووشمها بحروف “تيفيناغ” (أي بأبجدية كتابة الأمازيغية) وبكتابة عبارات التهنئة بالسنة الأمازيغية الجديدة بالأمازيغية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه وجبة تاكَلاّ شعبية في المغرب، إذ هي أكلة كل الطبقات الاجتماعية، وإن فقدت مكانتها لدى الطبقات الاجتماعية الميسورة منذ عقود ولا يلجأ إليها البعض منهم إلا في بعض العادات المناسباتية العائلية أو المجتمعية كما هو الشأن بالنسبة لمناسبة الاحتفال برأس السنة الأمازيغية أو السنة الفلاحية. لكننا نجدها أكلة تفرض مكانتها، في بعض المناطق، خاصة الجنوبية، كأكلة لا يستغنى عنها عند الضيافة ولو تشكلت الضيافة من عدة أطباق أخرى؛ فهي رمز التعبير عن الفرح الكبير بالضياف حين تقدم بعد الوجبات الأخرى المقدمة للضيوف مرافقة لطقوس خاصة منها تقديم الشاي الممزوج بالزعفران مرفوقا بمكسرات من جوز ولوز وغيرهما ورش الضيوف بأنواع زكية من العطور وغير ذلك مما يشعر الضيف بترحاب خاص. وأثناء مشاركاتي، خلال هذه السنة في الجنوب الغربي المغربي (وبالضبط في مدن بويزكارن وتيزنيت وأكلو وأكادير) في بعض الأنشطة الثقافية والفنية بمناسبة رأس السنة الجديدة الأمازيغية 2965؛ وفي زيارات لبعض أصدقائي بهذه المدن، لم تخل الوجبات المقدمة من وجبة تاكَلاّ كتتويج لوجبات أخرى فاخرة بالمناسبة؛ استعادة لعادات وتقاليد ذات رمزية عميقة في علاقة الإنسان ببيته وثقافته العريقة وبهويته. بل، حين قمت بزيارة لأحد أصدقائي في مدينة أكَلو، المعقل التاريخي لعبد اهة ابن ياسين مؤسس الدولة المرابطية، وجدت نساء حي صديقي قد اجتمعن في مسجد الحي طيلة اليوم لتهييء وجبة “تاكَلاّ” والاحتفال بمناسبة السنة الجديدة؛ وفي نهاية احتفالهن بدأن في توزيع وجبات “تاكَلاّ” على أسر الحي قصد تقاسمها مع الرجال وغيرهم ممن لم يستطع أو يتمكن من المشاركة في المسجد.
دلالات تاكَلا أو تاروايت:
نظرا لكون الوجبة تهيأ من مجرد دقيق الشعير أو الذرة كمادتين أساسيتين في التحضير، فإن الدلالة الأساسية التي تقدمها هذه الأكلة هي تربية النشأ على تدبير الندرة أو القلة، خاصة وأن الأكلة قد ارتبطت بمناسبة رأس السنة الفلاحية التي تأتي بعد فصل الخريف وفي عز فصل الشتاء حيث الندرة في كل شيء لدى الفلاح الذي يودع ما تبقى لديه من حبوب تحث الأرض لمواصلة عملية استنباثها.
وإذا كانت أكلة “تاكلا” تقدم في مناسبات الاحتفال برأس السنة الأمازيغية الجديدة على وجه الخصوص، فإنها تحضر وتقدم في موسم الحرث، وخلال فترة الحصاد، لما لها من دلالات ارتباط السنة الأمازيغية بالسنة الفلاحية، وبالأرض وغلالها وبعلاقة الإنسان بالأرض وبتاريخه.
إضافة إلى ذلك فهي، في نفس الوقت، قليلة التكلفة ومفيدة جدا للجسم خاصة في فصل الشتاء، إذ تعتبر من أكلات شتوية تستهلك حين يشتد البرد القارس، لتساعد الجسم على مقاومة برودة فصل والشتاء وتحضر بالأعشاب الطبية والعطرية وتؤكل مع مواد ذهنية مثل السمن وزيت الزيتون أو أركَان والعسل وأملو، وفق ما هو متوفر وحسب المناطق وإمكانات الأسرة.
كما أن الوجبة، وإن كانت قليلة التكلفة فهي عميقة الدلالات، لكونها “فضاء ومجال” لتمرير كثير من الطقوس والعادات وكذا المعتقدات للأجيال المستقبلية، خاصة في وجبة ليلة رأس السنة الفلاحية. ومن بين هذه العادات والطقوس وضع كومات من دقيق “أزنبو” (وهو دقيق يستخلص من حبوب الزرع الناضج وغير اليابس بعد، والذي يطبخ ببخار الماء ويقلى في أنية فوق النار ثم يطحن ويمزج بقليل من الزعتر وغيره من نباثاب صيدلية أخرى حسب خبرة النساء خاصة المسنات) أمام كل فرد من أفراد الأسرة تيمنا بسنة فلاحية جيدة، إذ تدل تلك الكومات على بيادر من الزرع الجيد. كما يتم إخفاء ما يسمى بالأمازيغية “أغورمي” وهو عبارة عن نواة ثمرة أو زيتونة في وسط وجبة “تاكلا”، المهيأة بالمناسبة، وكل من عثر عليه من بين أفراد الأسرة أو من بين المحتفلين؛ يعتبر محظوظ السنة الأمازيغية الجديدة؛ كما توجد طقوس أخرى ترتبط ببعض التنبؤات ذات الصلة بالسنة الفلاحية المقبلة وبالحظوظ المستقبلية لبعض أفراد الأسرة خلال السنة الجديدة. وليس هذا إلا غيض من فيض من الطقوس والدلالات المرتبطة بهذه الوجبة؛ تصب كلها في جعل المستقبل الآتي مستقبلا متفائلا للجميع.
كما تدل الأكلة أيضا على التآزر والتضامن لكونها تقدم في إناء دائري مشترك ومتقاسمة بين أفراد الأسرة. ومن خلال ما يقدم بمناسبة الاحتفال برأس السنة الفلاحية من أطباق قبل ليلة رأس السنة الأمازيغية وبعدها، فإنها، لكونها تقدم بالضبط في تلك الليلة التي سيليها رأس السنة الجديدة، تعبر عن مواساة الطبيعة في ألمها تلك الليلة التي ستتمخض عنها سنة جديدة؛ وذلك بعدم تقديم أي أكلة أخرى تدل على فرح المحتفلين وبهجتهم من خلال أكلات دالة على ذلك كما هو الشأن في اليوم الموالي حيث تقدم أكلات الكسكس بسبع حضر وأكلة الدجاج الحبشي أو البلدي أو غيره مما لذ وطاب من أكلات الابتهاج بحلول سنة جديدة. وبذلك يمكن القول بأنها أكلة دالة، قبل كل شيء، على تمرير قيم المحافظة على البيئة بامتياز.
*باحث في الثقافة الأمازيغية