– لحسن ايت الفقيه-
لا يستقيم هذا المقال، ولا يحمل مضمونه، ما لم يسلم قارئه بمسلمة مفادها، أن الانتخابات في الأوساط القبلية المغربية المغلقة لم تطق بعد اللباس الحزبي. وبالتالي، فغير مجد بالمرة الحديث عن الأحزاب السياسية في هذه الأوساط، احتراما لها وتقديرا، ودفاعا عن الحرية في التمتع بالحق في الهوية الثقافية، أو بالأحرى، الحق في التعبير، وفق ما تقتضيه تلك الهوية، بعيدا عن ثنائية الصواب أو الخطأ، الرجعية والتقدمية، الوفاء والخيانة، التنوير والظلامية. ولما كان الأمر كذلك، أو كان من الواجب أن نسلم بأنه كذلك، فمن المفيد نعت الفاعلين في الانتخابات بصفاتهم العشائرية القبلية والحديث عنهم، كما يجب، في هذا النطاق. فمعذرة لهم، واستسماحا، فلا جناح على خطاب تفرضه الحقيقة الواقعية.
وحسبنا أن الاسم الكامل للمرشح، ولباسه الحزبي، ورمزه، كيفما كان هذا الرمز، الشيء، والجسم، والحيوان، غير ذي تأثير في الوسط القبلي، الذي ظلت الزعامة فيه تتأسس على ثقافة الدم، وفي بعض الأحيان على ثقافة الجوع، فضلا عن شرائط الإثنوغرافيا.
ومن حسنات طغيان البعد العشائري القبلي، في الانتخابات التشريعية، على البعد السياسي، أنه يُمكّن من رسم خريطة الانتخابات بألوان تُظهر تناسب عدد أصوات لائحة انتخابية ما، وامتداد القبيلة التي ينتمي إليها وكيلها، وأحد شركائه، في المجال الجغرافي.
وبمعنى آخر، فالتمثيل الكارتوغرافي للقبائل يكاد يتناسب والتمثيل الانتخابي. وأريد أن أمثل بمجال جغرافي واضحة معالمه الطوبوغرافية والجيومورفولوجية والمناخية والبشرية، لكن معالمه الإدارية تبدو غير مستقرة على قرار ثابت، في الخريطة الإدارية المغربية. ولقد سبق أن فصلت القول في ذلك، ضمن مقالين نشرتهما إدارة موقع الحوار المتمدن الأغر. ولا يمنع ذلك، من العودة إلى الموضوع، باختصار، لأن الحشو قد يزيد في البيان أحيانا.
فالمنطقة المراد اختيارها تشكل نموذجا، ينتمي جغرافيا إلى جبال الأطلس الكبير الشرقي، خلا مناطق أعالي الأحواض النهرية، غريس، وتودغى، وحيبر «واد أيت عيسى»، لأن وضعها، وإن لم يكن مستقرا إداريا، فهي موزعة في الحال على الأقاليم، الرشيدية، وتينغير، وفيجيج، وهي امتداد لجهة جغرافية، تافيلالت/ درعة، قد يتحقق ميلادها مع إقرار الجهوية المتقدمة في الأيام المنظورة. ولأن جبال الأطلس الكبير الشرقي تمتد إلى مشارف أعالي ملوية، لتغذيها بالماء، فهي امتداد لها.
ولأجله وقع الاختيار عليها لتشكل مجالا لإقليم إداري محدث، لم يعمر بعد طويلا. لم نقر بعدم وضوح معالم منطقة جبال الأطلس الكبير الشرقي، وأعالي ملوية إداريا، جزافا، لأنه كان من المحتمل أن تصبح جزءا من المجال الترابي لأحدى الجهتين، خنيفرة/ بني ملال، أو مكناس/ فاس، بعد الإعلان الرسمي عن الجهوية المتقدمة.
وكان منتظرا أن يعدل التقطيع الإداري الإقليمي فتلتحق المنطقة الممتدة من فج «تكندوزت» غربا إلى فج «خنك الغار» بجبل «بوعروس» شرقا، ومن جبل العياشي شمالا إلى خانق زعبل جنوبا، بإقليم الرشيدية، لأن الشريط المذكور يحمل هوية تافيلالت وسمتها. ونسجل، ابتغاء المزيد من البيان، أن جبال الأطلس الكبير الشرقي، وأعالي ملوية جزء من إقليم تافيلالت، يوم إحداثه في فجر استقلال المغرب سنة 1956.
وحدث، بعد حين من الدهر، وفي أوج سنوات الرصاص التي عرفها المغرب، التحاق أعالي ملوية بإقليم خنيفرة، المحدث في بحر السبعينيات من القرن الماضي، استجابة لرغبة أمنية تأسست عقب الأحداث التي عرفتها المنطقة سنة 1973، وانجر عنها انتهاك حقوق الإنسان. وبعد طول انتظار أحدث إقليم ليضم الأطلس الكبير الشرقي وأعالي ملوية، عين عامله يوم 6 مارس 2010، فشكل وحدة سوسيومجالية متجانسة، لطغيان الكسب فيه والترحال على الاستقرار. ولا أحد يدري، ماذا سيحمل الغيب في طياته في شأن هذه المنطقة، ومتى سيستقر وضعها؟.
وقد صدق أحد المواطنين في قوله:« كانت منطقتنا مفقودة في الخريطة. ولقد اكتشفت، الآن، مع الجهوية المتقدمة. وهذا يكفي». عجيب أمر هذه المنطقة، أو على الأقل، نقول: إن وضعها جعلنا نعجب منها، إذ ندر ما يتناسب فيه البعد الجغرافي مع البعد القبلي في المناطق الأخرى والجهات. لذلك لا مجال للحديث عن المجتمع السياسي، ولا مجال للحديث عن نزاهة الانتخابات، لأنها نزيهة، لوفائها وثقافة المحيط القبلي.
أرأيتم أن جل من يتجه إلى صناديق الاقتراع للتصويت يحمل في ذهنه همّ عشيرته وقبيلته؟ فأي إخلاص غير هذا؟ وهل هناك من يحمل معه همّ التصويت لصالح برنامج حزب معين، ولو تضمن وعد إحياء تلك السكة الحديدية، العابرة لحوض ملوية والتي كانت تربط مناجم «ميبلاتن» بمدينة وجدة، ثم توقفت بعد آخر رحلة لها لنقل العمال بالمنطقة إلى مدينة وهران بالجزائر سنة 1945، فالانتخابات لم تزغ عن مضمون الأنساق الثقافية للقبائل، في وسط لا يزال يعيش معظم سكانه على الكسب والترحال.
وبمعنى آخر، ليس الهدف من المقال تقييم الانتخابات التشريعية، لأني لست ملاحظا لها ولا متتبعا بالتكليف، ولكن الهدف منه، النظر إلى العملية من منظور سوسيولوجي في وسط قبلي. ولا أعتقد أن الانتخابات تلاحظ من هذا المنظور، لأن التصويت فردي، ولا يمكن استحضار ذوبان الفرد في القبيلة أو تحرره عن ضغوطات قبلية، فوق أن المنطقة التي اتخذناها مجالا للممارسة تشكل استثناء، أو نموذجا لملامسة الاستثناء. وإنه من المجدي بيان الاستثناء، ولو بالعودة قليلا إلى الوراء لتحديد المنطلق، أو المنعطف التاريخي الذي يحق جعله منطلقا، والذي يصادف، في تقديري، سنة 1854.
ذلك أن الشيح إبراهيم يسمور اليزدكي لما عين قائدا وقتها على جبال الأطلس الكبير الشرقي، جزاء لما بينه من قدرة على الانتصار على قبيلة أيت عطا، طفق يعطي العشائر اليزدكية طابع الاستقرار في قرى زراعية مموضعة بجنبات الأودية، أوطاط، زيز، كير، وذلك بالتخلي التدريجي عن الترحال. وعملا على تجسيد طموح القبيلة على المستوى الثقافي والإثنوغرافي، حاول أن يعطيها طابعا قياديا «تمنوكالت بالأمازيغة»، وذلك بشن حروب زعم بالباطل أنها تقوم على قضايا عادلة، منها الدفاع عن المجال الوظيفي وتحصينه من جهة الجنوب.
ولقد نجح الشيخ إبراهيم في توطين منطقة زيز الأعلى والأوسط بعشائر يزدكية، وتوفق في تمديد نفوذ القبيلة إلى جنوب فم غيور بواحة مدغرة، واحتل التجمع القروي تولال بحوض كير، «قريتي تواصلت وسعد الله»، وأنشأ بعض النقط العمرانية الدفاعية بأعالي ملوية، واشتكت من خطره قبيلة «أيت عياش» فاستنجدت بقبيلة أيت عتو وموسى الحديديوية لدرء خطر هذه القبيلة، وخطر قبيلة «أيت يحيى»، فمنحت لها مزرعة قرية «بَرّم» بأعالي واد أوطاط، كما تقول الرواية الشفوية.
لقد تمكنت قبيلة «أيت يزدك»، بعد السيطرة على أجود الأراضي الزراعية، وموارد الماء، وبعد طرد قبيلة كروان من المنطقة وبقايا قبيلة بني احسن، من اكتساب قوة حربية دعامتها مدخرات القمح والشعير بمخازن الأسر، وكميات وافرة من التمور، تملأ مزاود الجنود أثناء الحرب، وحقول نبات الفصة المغذية للخيول. ولا تزال القلاع الحربية اليزدكية تشهد على ذلك الماضي القيادي للقبيلة مثل أعباري، وأشبارو، وأيت شبري. وبفضل الشيخ إبراهيم يسمور مكنت القبيلة ثقافتها من الصمود أكثر من نصف قرن من الزمان.
ولما أوشك تماسكها أن تنهار بفعل الضربات الخارجية، فضلت تغيير التاكتيك، فانخرطت في جيوش الحماية الفرنسية، فتوفقت في انتزاع منصب الشيخ في التقطيع الإداري لسنة 1919، لما عينت فرنسا الشيخ بيهي نايت رهو على مشيخة تيعلالين بحوض زيز، وتوفقت في الآداء الحربي لما أظهر القائد عينه شجاعة وبسالة في معارك استعمار جبال الأطلس الكبير الشرقي. وفي التقطيع الإداري لسنة 1933 ظهرت قيادة يزدكية كاملة وسلمت رئاستها للقائد المذكور.
ولقد حاول الزعيم عدي الحفاظ على القيم التي دافع عنها الشيخ إبراهيم يسمور. ولو أنه لم ينحدر من عشيرة «أيت يسمور» اليزدكية، فقد قرب إليه العشيرة وحاول أن ينسج معها علاقة مصاهرة لتمتيع حفدته بالدم القائدي. ولم يستقر وضع القائد سوى 14 سنة فقط، لتجري تنحيته سنة 1947 لأنه زاغ كثيرا، ولم يحترم الخطوط الحمراء التي رسمها الضابط الفرنسي روسو، بمركز الريش.
وفي فجر الاستقلال عاد القائد، فعين عاملا على إقليم تافيلالت الكبرى الممتدة من فج الزاد «أزاط حجيرت» شمالا إلى تخوم الحدود المغربية الجزائرية، ومن خوانق «أسيف ملول»، المدخل الشرقي لجبال الأطلس الكبير الأوسط إلى واد حيبر شرقا. وقد حاول القائد المدعم بسلطات قوية تضييق الخناق على التنظيم الحزبي السياسي، لأن الحزب في زعمه ثقافة دخيلة في تسيير الشأن العام، فوق أنه مؤسسة غير قادرة بالمرة على استيعاب الإثنوغرافيا، فهو ضد القبيلة، وبالتالي ليس على الدولة سلطاتها جناح، أن تحافظ على القبيلة مؤسساتها بما هي وحدة للتسيير والتدبير في هذه المنطقة. ولا شك، أن هذا الاختلاف الثقافي بين التصور القبلي والتصور الحزبي، جر القائد عدي وبيهي ليحاكم بتهمة التمرد والعصيان، بمدينة القنيطرة، فنزل حكم يقضي بإعدامه، لكنه توفي، قبل تنفيذ العقوبة، في ظروف غامضة، للآن.
وكانت محاكمة القائد واحدة من السياقات التي نتج عنها الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب، والتي دامت إلى حدود سنة 1999. وحسبنا أن جنازة القائد بمسقط رأسه بقرية كراندو شكلت مناسبة لتطفو ثقافة الدم على الوسط. وتقضي هذه الثقافة، هنا، تقدير الزعيم في الحياة والممات، كما يقدر المتصوفة المسلمون الأولياء مقامتهم وأضرحتهم، فالقائد عدي قائد حرب قبل أن يسند له تسيير شأن القبائل. وإذا كانت الجهات المسؤولة نظمت الخفارة [بفتح الخاء]، بعض الوقت، على قبر القائد الذي حافظ على انغلاق الوسط، وخدم القبيلة ودعم مؤسساتها، وحرص على عدم تسرب الأفكار الحزبية إليها، فإنها لم تمنع القبائل المنخرطة في الفيدرالية القبلية «أيت ياف المان»، من جعل القائد تذكارا رمزيا إلى الآن، وقدوة في الزعامة والشجاعة، والدفاع عن كرامة قبائل المنطقة. ولا تزال هذه القبائل أعيانها تنظم زيارات تقدير واحترام لمقام القائد بقرية كراندو.
وإلى حدود سنة 1997، ظل نجل القائد عدي، وبعده حفيده، بفعل الدعم العشائري، ممثل الأطلس الكبير الشرقي بقبة البرلمان المغربي، تكريما للقائد وأسرته على ما قدمته من خدمات ذات ارتباط بالشجاعة الأمازيغية. وعقب ذلك، ظهر وقع التحولات القروية الناتج عن انتشار الدخل غير الزراعي، وانخراط أبناء المنطقة في الوظائف العمومية وفي الجندية، وبدأت بعض الرياح تهز أركان الأسرة القائدية.
وبعد مضي أربعة عقود من الزمان على ميلاد مشيخة بيهي نايت رهو، ظهرت قوة ثانية حاولت استغلال نفس الأسس التي قام عليها بزوغ نجم أسرة القائد عدي وبيهي، من ذلك النسب اليزدكي، ومن ذلك أيضا استغلال الدور القائدي الذي قام به أحد أبنائها، وهو خريج مؤسسة عمومية حديثة في بداية السبعينيات من القرن الماضي، وتوليه الشأن العام بعض الوقت.
ولقد حدث بعد بلائه بلاء حسنا، في سنوات الرصاص، لا سيما وأنه رئيس لأحد أقسام الشؤون العامة، أن ارتقى إلى قائد من الدرجة الأولى، وولى أمر بعض المناطق، واكتسب خبرة فائقة في الميدان الممتد من فيجيج شرقا إلى قلب الأطلس الكبير الأوسط غربا، ورفع بعض التهميش على مركز الريش، الذي ظل إلى حدود سنة 1984 قرية صغيرة للغاية.ويعنينا أنه ترك وقعا في المنطقة، لا مجال لتقييم تجربته، وتجربة الإدارة التي ينتمي إليها طيلة سنوات الجمر والرصاص، حيث اكتسب بعض الأعداء، ونال ثقة بعض المريدين. وكان القائد الجديد يحس دوما بأن لا شأن له إذا لم يستمر في ممارسة السلطة في شكلها التنفيذي، ولما لا التشريعي، فبات يعد العدة لمرحلة أخرى من عمره، مرحلة القائد الشيخ.
ولبلوغ قصده قرب بعض الأعيان وبنى قصبتة لتضاهي قصبة القائد عدي وبيهي بقرية كراندو. وطفق يحضر ببلدته في المناسبات الدينية، ليستقبل الأعيان الذين يباركون له تارة شعيرة عاشورى، وتارة أخرى رمضان، والأضحى، فعلا شأنه قليلا. وبعد انتهاء وظيفة معسكر تزممارت سنة 1991، أدرك القائد أن الوقت، قد حان لتمثيل أسرته في قبة البرلمان، فجند أتباعه واستطاع إزاحة حفيد القائد عدي وبيهي جانبا، في انتخابات 1997، وكانت تلك التجربة ناجحة، إذ رسخت الاعتقاد بأن لا دوام للعشائرية بالمنطقة وأن زوالها ممكن إذا توافرت بعض الشروط، قد لا ترتبط في الغالب بشخصية البطل الانتخابي.
ومكث غير بعيد ليظهر هو نفسه، في الساحة القبلية بالمنطقة في سنة 2006، واستبشر السكان خيرا لأنهم انتظروا منه أن يكون خير خلف لخير سلف، ويحافظ على القيم القبلية، ويشهر هذه المنطقة المنسية لاحتضانها من قبل معتقل تزممارت. ويبدو أنه حقق بعض النجاح في الولاية السابقة فبارك له بعض الأعيان خطواته. وسجل عليه أنه باستثناء تدخله في القناة التلفزية الثانية مطالبا بدرء خطر الفيضانات، على واد كير في بحر سنة 2008، واستفساره عن بعض شؤون الأطلس الكبير الشرقي، لم يرض ثقافة المنطقة، إذ تراجع عن إطعام الطعام، واستقبال الأعيان في المناسبات والأعياد ومشاركتهم الرأي في بعض الشؤون، ونزول الميدان لملامسة معاناتهم.
وقبل ذلك تراجع قليلا لأنه يبتغي التوفيق بين ما لا يطيق التوفيق، أي بين القبيلة والحزب السياسي ولو بلباسه الأمازيغي. ولقد أدركت معظم العشائر أن العودة إلى الأصل أصل، فصوتت لفائدة حفيد القائد، في انتخابات 25 نونبر 2011، على الرغم من كونه لم يقدم على خوض الحملة الانتخابية بجد، ولو أدى الأمانة على وجهها لحاز على أكثر من 3600 صوت، وفاز كعادته. وحسبنا أننا نلامس في الميدان من بات يبكي عدم فوز حفيد القائد عدي وبيهي، إذ ليس هناك ما يبرر تراجع هذه الأسرة، مادامت العشائرية قائمة ومستقرة بالمنطقة. وبالمقابل قلّ من يبكي القائد الثاني، الذي حصل على صوت واحد في وسط عشيرة «أيت إبراهيم»، ومنحت له أسر «أيت موسى وعلي» خمسة أصوات، وأما عشيرة «أيت وليل» فقد نسيته كما نسى دورها في دعمه بالأمس، وفضلت دعم اللائحة النسائية. كل ذلك يبن أن على هذا الزعيم الجلوس لمراجعة أدائه بالوسط القبلي، الذي تعرض للكثير من التمييز والانتقاد. ولم تفته الفرصه إن أراد الاستدراك وإدراك الركب.
ولا ننكر أيضا أن رياح التغيير قد هبت على الوسط اليزدكي كله، وأما الأوساط الأخرى المجاورة، فتكاد تحافظ على وجهها القبلي كاملا، وعلى وفائها. ذلك أن العشائر ذات الأصل العربي بمنطقة أمرصيط، والمنبسط المدعو «ألدون» بشمال جبل العياشي آزرت لائحة ينحدر وكيلها من ملوية الوسطى، ودعمته كذلك، بعض النقط الناطقة بالعربية.
لكن ذلك لا ينفي تأثير أحد الأحزاب التقليدية اللائحة المذكورة. ولا غرو، فقد حافظ على علاقته بمريديه، إن بالدعم المعنوي أو بالبذل المادي عند الحاجة. ولا يزال قادرا على الصمود بعض الوقت مادامت قبيلته تُكن له التقدير والاحترام. وهناك مرشح آخر، قادم من أعالي ملوية، مركزا في حملته على انتمائه القبلي، ووقوفه إلى جانب عشائر «أيت وافلا»، وقبيلة «أيت يحيى» بالسفح الشمالي الغربي لجبل العياشي. وعرف عنه أنه استطاع في وقت متأخر أن يقتحم مجال قبيلة «أيت سغروشن»، حيث حضر أكثر من مرة، في قلب المراعي الجبلية، ليسمع تحت الخيام إلى مأساة رحل منطقة النزالة، في طلب الدقيق المدعم والشعير، وإلى صيانة بعض المسالك لتمكينهم من نقل المؤونة، وإلى تزويد مناطقهم بالكهرباء ونقط الماء. ولم يغفل هذا المرشح التردد على المواقع الثقافية كالزاوية العياشية، وتكليف من يهيء له أجواء الزاوية الوكيلية. وكل يعلم علاقة هاتين الزاويتين بقبيلة «أيت عياش»، التي قدمت له أحد أعيانها ليكون شريكا له في اللائحة. واستعان المرشح المذكور، بأحد شركائه الثلاثة فأقنع رحل قبيلة «أيت موسى» بالتصويت لصالحه، كما حصل على بعض أصوات المنخرطين في حزبه بمركز كرامة بحوض كير. ويعنينا أنه استطاع بتجربته وخبرته أن يدرك حاجات الأوساط العشائرية، فتحقق له النصر، ومن المؤكد أنه لن ينعزل عن الوسط القبلي، ولن يبرح عاكفا على خدمته. ولا غرو، فهو شخص لا يفتأ يقدر الأقليات العرقية حقوقها الثقافية، ويدعم الأنشطة الثقافية بالمنطقة، ومن عيوبه أنه لم يحدث أن قدم نفسه باللباس العشائري، لأن حزبه لن يسمح له بذلك. وما كانت لهذه الأوساط أن تتقدم على قبيلة أيت يزدك القائدية بالأطلس الكبير الشرقي، وأعالي ملوية، لوثبت القائدان التقليديان ثباتا قائما على مباديء القبيلة والقيم التي كرسها الشيخ إبراهيم يسمور المذكور.
قد يكفينا الاستشهاد بأربع لوائح للمرشحين تمكنوا من التقدم في الانتخابات التشريعية المغربية يوم 25 نونبر 2011، بجبال الأطلس الكبير الشرقي وأعالي ملوية. ولا يفيد ذلك أن باقي المرشحين لا مكان لهم في الخريطة العشائرية الانتخابية بالمنطقة المذكور. فقبيلة بني مكيلد دعمت لائحة أحد أبنائها بحوالي 2900 صوت، وزودت عشيرة أيت حديدو لائحة أحدهم بحوالي 1700 صوت، وحصلت لائحة مرشح قبيلة أيت مسروح بحوض كير على 1400 صوت، وحاز أحد مرشحي قبيلة «أيت يزدك» من عشيرة «أيت موسى وعلي» على 1690 صوتا. وأما لائحة ثلاث نساء فكان نصيبها 491 صوتا، مما يبين أن لا مكان للمرأة هناك.. إنها أصوات معبر عنها، لكنها بعيدة في الغالب عن البرامج الحزبية. فهل من الممكن تأهيل الأحزاب لتقوم بدور المؤثر في الأوساط القبلية؟ سؤال يحتاج جوابه توظيف علم الاجتماع السياسي.
ولم يخل هذا الوسط القبلي العشائري من ممثلي التيارات الدينية وأحزاب اليسار، والفكر اليساري التقدمي. ولا أحد يستطيع التعبير عما يخالج المقاطعين للتصويت والعازفين عن التردد على مكاتبه. ولكن النتيجة أن الانتخابات التشريعية بالمنطقة المذكورة اكتشفت أن النخبة العشائرية لا تزال صامدة.، وأن لهؤلاء الحق في الدفاع عن هويتهم الإثنوغرافيا والتعبير عنها بواسطة صناديق الاقتراع.