-محمد أمين بنعبد الله*-
في اليوم السابع من أبريل 2021، أصدرت المحكمة الدستورية قرارا استأتر باهتمام كل الفاعلين السياسيين لارتباطه بجانب مهم من الممارسة الديمقراطية، وخاصة طريقة توزيع المقاعد على مستوى مجلس النواب.
لا يخفى على أحد أن المادة 84 من القانون التنظيمي المتعلق بمجلس النواب غيرت بشكل جذري التشريع المعمول به حتى الآن بالنمط الانتخابي، وذلك باعتمادها قاسما انتخابيا يحتسب ليس على أساس الأصوات الصحيحة المعبر عنها، وإنما على أساس عدد المقيدين في اللوائح الانتخابية.
وجدير بالملاحظة أن هذا التغيير سوف لا ينعكس على تركيبة مجلس النواب فحسب، بل أيضا، وأساسا، على تركيبة وتشكيل الحكومة، حيث ينص الفصل 47 من الدستور بهذا الخصوص، على أن الملك يعين “رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب وعلى أساس نتائجها”، وفي هذا الصدد، فإن تغيير طريقة توزيع المقاعد بمجلس النواب سيكون لها لا محالة تأثير كبير على نتائج الانتخابات وبالتالي على تشكيل الحكومة.
بغض عن هذه المعطيات، لا يجب أن ننسى أن هذا التعديل جاء نتيجة تعبير عن إرادة المشرع، ولم يتمكن معارضوه من ترجيح رأيهم على رأي الأغلبية ، كانوا، كما يقال، على خطأ من الناحية القانونية لكونهم أقلية من الناحية السياسية، أليس هذا الأمر من قواعد الممارسة الديمقراطية ؟ في هذا الصدد بالضبط يأتي دور القاضي الدستوري ليقول قوله في دستورية قانون مشروط بموافقته قبل الأمر بتنفيذه من لدن جلالة الملك.
في إحدى الحيثيات من قرارها، اعتبرت المحكمة الدستورية أن أحكام المادة 84 قد حددت أساس احتساب القاسم الانتخابي من خلال اعتماد قاعدة “عدد الناخبين” المقيدين في الدائرة الانتخابية المعنية؛ وأضافت أنه بما أن الدستور لا يتضمن أي قاعدة صريحة تتعلق بطريقة احتساب القاسم الانتخابي، فإن هذا الأمر هو من المواضيع التي ينفرد المشرع بتحديدها؛ وهو الموضوع الذي لا يمكن للمحكمة الدستورية التعقيب عليه – وهنا يكمن الخلل – طالما لم يخالف أحكام الدستور.
من خلال قراءة أولية للقرار نلاحظ أن المحكمة الدستورية لم تمارس سوى والوظيفة المخولة إليها بمقتضى الدستور المتمثلة في التصريح بدستورية أو عدم دستورية القانون التنظيمي المعروض عليها، فهل قامت بواجبها بما يرضي ؟
ليس في نيتنا القول هل كانت على صواب أم لا، ذالك أن قراراتها لا تقبل أي طريق من طرق الطعن وتلزم كل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية، إلا انه، ورغم ذلك، فهذا لا يمنع من التساؤل عن مدى ممارسة المحكمة الدستورية لكامل واجبها بخصوص هذه النازلة ؟
وفي هذا المضمار، فإننا نعتبر، وبكل صدق وتواضع، أن المحكمة الدستورية لما اعتبرت نفسها غير مختصة لتقييم السلطة التقديرية للمشرع فيما يخص القاسم الانتخابي، فإنها تكون قد استقالت من وظيفتها المتمثلة في عملية الضبط المخولة للقاضي الدستوري، كما تكون معه قد استدارت ظهرها وغيبت مراقبة النسبية الواجب عليها فحصها تفاديا لكل غلو أو شطط في استعمال السلطة التشريعية.
فإننا نعتقد أن المحكمة الدستورية، ومن أجل تفادي تقديم شيك على بياض للمشرع من أجل اختيار ما يرغب فيه دون قيود، كان عليها أن تلزم نفسها بتعليل وتبيان الأساس القانوني لاختيار قاسم انتخابي يحتسب على أساس قاعدة عدد المقيدين في اللوائح الانتخابية، ثم بعد ذلك التصريح بكون هذا الاختيار يمكن قبوله إعمالا لروح الدستور مادام لا يشوبه خطأ بين في التقدير، وهي تقنية مألوفة في الرقابة القضائية سواء في مجال القانون الإداري أو القانون الدستوري، تسمح لمستعملها التذكير بحضوره لكي لا يكون هناك تجاوز لا يستساغ مستقبلا.
طبعا هناك فصول الدستور، لكن هناك أيضا روح الدستور، وبالتالي لا يجوز مراقبة نص قانوني فقط في ضوء ما هو منصوص عليه صراحة، وإنما أيضا مع استحضار عملية التقدير المفروض استعمالها من طرف القاضي الدستوري، ذلك أن الرقابة على الدستورية لا تسمح بالتخلي من طرف ممارسيها عن صلاحياتهم، وإنما توجب عليهم دائما إبراز حضورهم من خلال مراقبة السلطة التقديرية للمشرع وتحديد حدوده الدستورية.
وعلاقة بهذا، فإن المنهجية المعتمدة في هذا الموضوع، والتي تغيبت فيه المحكمة الدستورية، من شأنها أن تفتح المجال أمام المشرع لاعتماد أي قاسم انتخابي آخر، اعتماد، ولم لا، عدد سكان الدائرة الانتخابية المعنية وليس فقط عدد المسجلين ! قد يبدو هذا تصورا مستحيلا وفي منتهى الغرابة، إلا أنه، مع الأسف، بفضل تعليل المحكمة الدستورية الوارد في قرارها، يمكن تصوره و قبوله !
لنتصور ما هو ممكن ! كلنا نعلم أن التسجيل في الوقت الحاضر، في اللوائح الانتخابية، عمل إرادي، ويمكنه في المستقبل أن يصير مفروضا وتلقائيا بالنسبة لكل شخص يبلغ سن الرشد القانوني، أي أن الإدارة نفسها هي التي ستتولى تسجيل الراشدين دون أن رغبة منهم، وفي هذه الحالة الأخيرة فإن تعليل المحكمة الدستورية سيصبح غير قابل للتطبيق لأنه لم يتحرى في ذلك الدقة اللازمة المفروضة في كل منهج قانوني سليم: لا يجب تجاهل المستقبل ! حيث إن غياب رقابة المحكمة سيسمح للمشرع مستقبلا باستعمال الشطط في ممارسة سلطته التقديرية التي ستصبح محصنة من أي رقابة؛ لقد صرح القاضي الدستوري أن لا رقابة له على السلطة التقديرية للمشرع ولم يعبد البتة الطريق بالإشارة إلى انه لم يقبل النمط إلا لكونه غير مشوب بخطأ بين في التقدير.
والغريب في الأمر أن المحكمة الدستورية، وقبل أسبوع فقط عن صدور قرارها هذا، اعتمدت في قرارها الصادر في 31 مارس 2021 في موضوع القانون التنظيمي المتعلق بالتعيين في المناصب العليا، نفس الاجتهاد المتبع من قبل المجلس الدستوري، وذلك بعدم توقيع شيك على بياض لفائدة المشرع، حيث صرحت بخصوص تعديل هذا القانون التنظيمي أنه ليس من صلاحياتها التعقيب على السلطة التقديرية للمشرع لتحديد لائحة المؤسسات والمقاولات العمومية الإستراتيجية من غيرها، ما لم يكن هناك خطأ بين في التقدير، مما يجعل عملية المراقبة قائمة بشكل دائم.
وباختصار، لئن كان على كل المغاربة إلا الانحناء لحجية الشيء المقضي به لقرار المحكمة الدستورية فيما يخص القاسم الانتخابي، فإننا في نفس الآن نتأسف لهذا القرار الذي خول المشرع حق إقرار أي مقتضى على هواه، بعيدا عن تقنيات المراقبة المعتمدة عالميا، فليس هناك أسوء من أن يتخلى المراقب عن مهمته الرقابية.
*أستاذ بكلية الحقوق أكدال وعضو سابق بالمجلس الدستوري
نقلا عن تيلكيل عربي