لحسن آيت لفقيه الكاتب والباحث في التراث الثقافي:
الجنوب الشرقي المغربي له قدرة فائقة على استيعاب التعدد الثقافي في وحدات سوسيومجالية متجانسة
لحسن أيت لفقيه الكاتب والباحث في التراث الثقافي يتحدث في هذا الحوار عن الجنوب الشرقي المغربي، من «تيزي ن تلغمت» شمالا إلى «إمي ن إغيور» جنوبا، وما تزخر به المنطقة من تنوع وغنى ثقافي، ويشير في هذا المقام إلى ما دونه في كتابه: «قيم السلم القبلي والعلاقات الوظيفية بجبال الأطلس الكبير الشرقي»، موضحا أن للمنطقة قدرة فائقة على استيعاب التعدد الثقافي والاثني في وحدات سوسيومجالية متجانسة.
آيت لفقيه تطرق إلى الاختلالات والإكراهات التي تعيق تدريس الأمازيغية، ويرى أن من بين المعيقات جيوب المقاومة التي تستعمل الأيدي والأرجل لتعطيل وتيرة إدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية. تفاصيل أخرى هامة في هذا الحوار.
- الجنوب الشرقي خزان ثقافي بامتياز لكن معالم الثقافة واللغة الامازيغيين بارزة في كل الفضاءات بصفتك من الكتاب والمهتمين بالتعدد الثقافي بالجنوب الشرقي اين يتمظهر هذا التنوع؟
الجنوب الشرقي خزان ثقافي بامتياز لاحتضانه التعدد الثقافي، وإن كان يطرح إشكالات يتجلى في خمسة أوجه:
إذا استثنينا المسلك الجبلي بين اللصاب الممتدة من «تيزي ن تلغمت» شمالا إلى «إمي ن إغيور» جنوبا، المسلك الذي يصل نشرُه السلطة المركزية، ويجعلها دواما على بال، تنزل عليه خيل «الحرْكة» لتقويم الاعوجاج فيه، كلما أحست من أهله الزيغَ، فيتضع الناس بعض الوقت، وتكلف من يحرسه، فإن جل المناطق الجبلية تقع خارج «بلاد المخزن»، ولا يَشْخصها بصر السلطان إلا نادرا. فكيف انتظم الشأن الأمني بالجنوب الشرقي؟
ب ـ طلت المنطقة مخبأ لاحتجاب الأقليات العصبية، أو الجماعات المجردة من اللباس العصبي المتبنية لأوراد الزوايا، فأضحى ـ المجال ـ بساطا للتعدد الثقافي. وكان منتظرا أن تَشخض البساط زاخرة بالصراعات العنصرية، وقيم التنافر والعدوان، وذلك ما لا يحدث إلا نادرا، رغم ورود القيم العنصرية في الأعراف، وظل السكون سمة غالبة. فما السر في ذلك؟
ج ـ إذا استثنينا عرف قرية «تدركلوت»، وعرف «أيت حمو وسعيد» في رحلتهم لمقاومة الاستعمار الفرنسي، فإن الأعراف، بما هي قواعد شفاهية، أو نصوص مخطوطة مُحبّرة، لا تنهل بوضوح من أي ملة أو نحلة. وإذا انفتحت على الدين فإنها تنهل من النوازل، والفتوى تكييف للدين لينسجم والحقيقة الواقعية في المجتمع. فكيف استقر حال الجماعات البشرية التي أربت بسفوح الجبال، على قرار ثابت، لا يُشينه أي توتر بين الدنيوي والديني؟
د- رغم مضي أربعة عقود من الاحتلال الفرنسي للمنطقة، على وجه التقدير، والشروع في إرساء مؤسسات الدولة في بعض المراكز، وتعميم القبضة والتحكم الذي يرقى إلى مستوى الزجر، لم تتحقق القطيعة بعد، مع مغرب ما قبل الحماية الفرنسية. ولا تزال القيم الثاوية في الأعراف، وفي الأنساق الثقافية، هي التي تطفو على السطح، وطالما تضايق فعل المؤسسة الحديثة. وطرح السؤال حول سبيل تجاوز توتر هذه القيم الثقافية
هـ ـ استمرار توتر القيم الثقافية في مضايقتها لأي فعل دخيل غير مألوف، فكاد التوتر يغشى ما حملته المؤسسة الحديثة من حكامة وفعل تنموي. فبعد أشواط من النزاع بين المرجعية العرفية والدينية دامت بالوسط طيلة القرن التاسع عشر، ينتصر العرف ويطفو بحمولته القيمية على الوسط ليزعج كل دخيل من القيم. وحسبنا أنه كلما نزل الفعل التنموي ميدان ما، يخرج العرف لمضايقته، وطالما التهم الثقافي كثيرا من مجالات حقوق الإنسان، كحق المرأة في الأرض، وحقها في الأرض، واستمرار تزويج القاصرات.
ورغم هذه الإشكالات، يبدو أحيانا مستترا لقدرة الأمازيغية على الاستيعاب. وقد سلف أن وقفت عند هذه القدرة في كتابي الذي صدر مؤخرا عنوانه «قيم السلم القبلي والعلاقات الوظيفية بجبال الأطلس الكبير الشرقي». نعم « للثقافة الأمازيغية قدرة فائقة على الاستيعاب، استيعاب التعدد الثقافي والإثني في وحدات سوسيومجالية متجانسة، لقدرة الثقافة على تغطية المجال. ويجري الاستيعاب بإضافة الدخيل (intrus) حليفا في التحالف السائد، دون مراعاة المَحْتِد. إنه إجراء وظيفي يروم درء كل صراع يقوم على العنصر.
تأثل الاستيعاب داخل التحالفات القبلية الوظيفية، وعظمت الروابط فيه وتقوت، بعيدا عن القرابة الدموية». ويجب الاستشهاد في هذا الصدد، بتحالف «أيت عطا» الذي عظمت روابطه، كما قال روس إ. دان إلى الحد الذي أصبح فيه بني امحمد مندمجين إلى حد ما في التنظيم السياسي الواسع لأيت عطا. هذا وإن لم يتقدموا قط للحصول على منصب أمغار ن فلا»، فقد «كانوا يشاركون في انتخابه السنوي»، بما هو جزء «من خمس أيت أونبكي»، بالكاف المعطشة.
ويشكل القصر فضاء آخر، للاستيعاب، بامتياز، لا لشيء، سوى أن مجال القرابة فيه ضيق للغاية، إذ القرابة «لا تمتد في العديد من القرى خارج الأسوار، كما أن الفرد يعرف بنسبه الخاص داخل القصر الخاص، وليس داخل قبيلة معينة». ولا غرو، فقد كثر الذين نسوا أصلهم القبلي لأن دفء القصر استوعبهم والتهمهم. وثبت أن قصورا كثيرة تحسب نفسها منتمية لجد واحد، لوقع الذوبان الذي فرضه القصر، بما هو وحدة سوسيومجالية أنشئت لضمان الاختباء والدفاع الذاتي. ويمكن لجماعة ما أن تحمل نسبها من نمط الترحال إلى الاستقرار في القصر، كنحو «أيت موسى وعلي» اليزدكية، بالكاف المعطشة، و«أيت عمرو»، و«أيت يكو»، و«أيت علي ويكو»، و«أيت حمو وعلي»، بمجال «أيت حديدو». ويمكن للقصر أن يحافظ على نسب معين لا صلة له بالسكان الذين يقطنونه، كقصري «أيت يعقوب»، و«أيت سعيد» بحوض زيز. وقد يزعم سكان القصر جميعهم أنهم أبناء جد واحد، كما سلفت إليه الإشارة، دون أن يملكوا أي دليل على ذلك، ومرد ذلك إلى أن الاتحاد فيما بينهم تجاوز تعدد المحتد وبلغ مستوى الانصهار. وقد تأتي المجموعة القروية لتفرض هويتها على كل القاطنين بها كنحو تولال بواد كير، بالكاف المعطشة، التي أخرج منها «أيت يزدك»، بالكاف المعطشة، أهلها في القرن التاسع عشر، وهجروهم عنوة إلى غرب مكناس. إنها مجموعة من ثمانية قصور، يجمعهم نسب واحد تولال، بما هي مجموعة قروية بواد كير، بالكاف المعطشة. وحسب ما ورد في المادة 48 من عرف تولال فإن قصور المجموعة القروية شيوخهم ينتخبون شيخا واحدا. ومعنى ذلك، أنه «يمكن للفرد أن ينتسب إلى لفيف من القصور أو إلى منطقة»، كمجموعة «تيعلالين»، و«إسلاتن»، و«إسومير»، و«أسيف ملول»، والسيفا والسفالات، وتينزولين بدرعة. ويمكن لجماعة موزعة على عدة قصور أن يدعي سكانها «أنهم ينحدرون من أصل واحد»، كما هو شأن «أيت عيسى» «الذين يحتلون وادي عيسى ـ حيبر». وينسحب ذلك على تقديم الهوية المجالية على الهوية العرقية. وقد يجري الاستيعاب لضرورة احترام تشكيلة عشائرية تناسب الرقم السحري 3، كنحو حماية «أيت عيسى» للأقليات بكل من قصر باكنو، والكرعان، بواد كير، بالكاف المعطشة.
ويدون العرف مستوى الاستيعاب الذي يناسب مستوى الاستقرار بالقرية، ويحمي التحرك في المجال ويحدده. ويضمن استغلال موارد المجال، وتنظيم الدفاع الذاتي، وكل فصول العلاقة بين الإنسان والأرض. وأما ما يتصل بالتعود والتقاليد الشفاهية، فلا يدون إلا نادرا.
- بصفتك من خبراء المخطوطات بالجهة. هل هناك نماذج من هذه المخطوطات توضح وضع الأمازيغية بالجنوب الشرقي؟
هناك مخطوطات كثيرة توضح صمود الأعراف الأمازيغية رغم وقع الشريعة الإسلامية. سأقدم مخطوطا واحدا حول إرث المرأة لأن المجال لا يسمح بالتوسع في هذا المجال. مضمون المخطوط يدور حول الدعاية التي مارستها الزاوية الوكيلية بحوض زيز في منتصف القرن التاسع عشر حول التخلي عن العرف الأمازيغي الذي يحرم المرأة من الإرث حفاظا على الثروة داخل العشيرة أو ضمان قوة العشيرة، فكان أن أقنعت إبراهيم بن جبور، وسمح بإرث ابنته في حياته، وليس في مماته. ويفيد ذلك أن التوتر بين قيم الشريعة الإسلامية والأعراف الأمازيغية ينتهي في الغالب بالاجتهاد في الملاءمة بين القيم، وهنا، كان الاعتراف بإرث المرأة في حياة أبيها!
مضمون النص: «الحمد لله اشهد لدى شاهده إبراهيم بن جبور الزدكي الإبراهيمي النازل وقته تخلفونت أن نصيب ابنته فاطمة زوجة موحى والحاج نيت شيشا على وجه العارية عنده معلوم ومتى أرادته تأخذه بلا نزاع وذاك أرضا كان أو نخلا أو رياعا أو آثاثا أو حيوانا أو غير ذلك. وأشهد إبراهيم المذكور أنه بريء من شروط القبيلة ولا يتبع إلا الشريعة المحمدية، فمن سمع مقالته (ما قالته) واستوعبها قيد ذلك لسايله (لسائله) في السادس والعشرين من الحجة الحرام ومتم إحدى وسبعين ومائتين وألف، عبد ربه محمد المكي». تعود الوثيقة إلى سنة 1271 هجرية الموافق لسنة 1855 ميلادية. كتبها الفقيه محمد المكي من الزاوية الوكيلية على الضفة اليسرى لواد زيز، ويحوزها حفيده السيد محمد بن المصطفى الوكيلي. وتدور حول قرية «تخلفونت»، الواقعة جنوب شرق «تابية»، على الضفة اليسرى لواد زيز، بجماعة امزيزل، إقليم ميدلت، وهي قرية مُندرسة لسبب ما، قد يعود إلى فيضان واد زيز، في الغالب. رحل سكانها إلى قرية «أيت سعيد» التي تؤوي «أيت إبراهيم» إحدى أبطن «أيت مومو» اليزدكية، بالكاف المعطشة.
ويستنتج من الوثيقة، مقارنة بالمعطيات التي حافظ عليها الميدان، أن القرى: «تخلفونت»، و«تاشيشات»، و«أيت سعيد»، تحسب من نصيب «أيت إبراهيم» اليزدكية، بالكاف المعطشة، وفق التوزيع العشائري للأرض على القاعدة 40. وتبطن الوثيقة شأنا مُهما يتصل بالزواج العشائري، وهو جانب من جوانب التعود، إن لم يكن هو الأصل. فالزواج العشائري يستصحب معه التعارض في الإرث بين العرف الأمازيغي والشريعة الإسلامية. وأمام هذا الوضع الثقافي فضل السيد إبراهيم بن جبور أن يستدبر العرف، ويتبع مسلك الشريعة الإسلامية. هنالك هرع إلى الزاوية الوكيلية، موطن التدوين، للإشهاد على قصده ونيته تجاه ابنته أمام الفقيه محمد المكي. ولم تنج الزاوية الوكيلية من رد الفعل الذي قامت به «أيت إبراهيم» لدحض سلطة الشريعة التي تضايق عرف «أيت يزدك»، بالكاف المعطشة، الوظيفي. لقد أقدمت أيت إبراهيم على عافية سنة 1859 ميلادية، على سكان الزاوية، وفرضت بموجبها العرف اليزدكي في بساط الزاوية الوكيلية. وأزيح العمل بالشريعة الإسلامية جانبا.
- تدريس الأمازيغية في المغرب بدأ منذ 2003، والى لحد الان هناك تعثرات في هذا الصدد، ما سبب ذلك في نظرك؟
سلف أن عاينت الانطلاقة الأولى لتدريس الأمازيغية، لما كنت مديرا لمجموعة مدارس الأمير مولاي عبد الله بإملشيل ما بين سنة 2000 وسنة 2005، ولاحظت أن الأساتذة، رجالا منهم ونساء، الذين ينطقون الأمازيغية يرفضون تدريسها. وإن أريد له أن يتكلف بالمهمة لا بد من مواصلة استعطافه وتشجيعه طيلة الموسم الدراسي. وأما الذين لا يعرفون الأمازيغية فرغم حبهم للغة، وتطوعهم لتدريسها فإنهم يواجهون صعوبة عدم درايتهم باللغة الأمازيغية. ومعنى ذلك أن الناطقين بالأمازيغية هم أنفسهم من يحاربها. ومن جانب آخر لم يبذل مجهود ذو أهمية في إنتاج الدعامات البيداغوجية، ونفس الشيء ينسحب على التأطير البيداغوجي، حيث قل من يكابد نفسه لدعم الأمازيغية.
- هل يطمئنك وضع الأمازيغية في المغرب ام ان هناك اختلالات يجب معالجتها؟
غير مطمئن على وضع الأمازيغية في المغرب من حيث المجهود المبذول، أو بالأحرى، من حيث البحث العلمي والإنتاج الثقافي. صحيح أن هناك أساتذة يشجعون طلابهم للاعتناء بالأمازيغية، حسب تخصصهم، كما هو الحال في الكلية المتعددة التخصصات بالرشيدية، لكن ذلك غير كاف لأن الجامعة، بما هي مؤسسة لم تنخرط في هذا الورش. وهناك باحثون متطوعون يبذلون كامل المجهود في مجال التراث الثقافي، والشعر الأمازيغي، والتاريخ، لكن مؤسسات الدولة غير مشجعة لهم، وغير منخرطة في الورش بالشكل المطلوب.
حوار عن جريدة “العلم” (عزيز اجهبلي)