رفعت فرقة “مسرح الشامات” شعلة تدشين الموسم الثقافي والمسرحي على صعيد جهة فاس مكناس، بتقديمها لعرض يحمل عنوان”عدم” من إخراج مديرها، بوسلهام الضعيف.
أمام جمهور كبير متعطش لتقاسم فرجة جماعية حية، وبحضور نخبة من رجالات الحركة المسرحية بالعاصمة الاسماعيلية وغيرها، احتفى المركز الثقافي محمد المنوني بعودة الحياة الى المؤسسات الثقافية وعانق فيه الفنان المسرحي مكانا ينبض بحرارة التفاعل الحي مع المنتوج الفني المقترح.
عنوان العرض المسرحي “عدم”، رامز دقيق ووفي لمضمون العمل الذي يغوص في عباب الأسئلة الوجودية الملحة التي تواجه الكائن الانساني في كل زمان ومكان، وخصوصا في الزمن الراهن الملبد بالشك، تلك الأسئلة التي هي في نفس الوقت سلاح الانسان لإثبات وجوده ومعاندة الإلغاء والاحتفاء بالكينونة نشيدا للعالم.
العرض ابن السياق الفلسفي والانساني الوطني والعام الذي فرضه زمن الجائحة بتحدياتها غير المسبوقة نوعيا في علاقة الانسان بذاته وبالآخر وبالعالم. يضرب الوباء فينتشل الانسانية اللاهية المستغرقة في التفاهة من يوميات استسهال وجودها ليصفعها بإنذار الاضمحلال وشؤم الموت ويزج بها في نفق التيه ومساءلة الراهن والمآل.
مشاهد مفتوحة متحررة من قيود كتابة كلاسيكية أحادية الموضوع، ومن ترتيبات الدراما الخطية المغلقة ببدايتها ونهايتها وتطور أحداثها. على الركح، يتألق النص الشعري والتأملي، بالدارجة والفصحى والفرنسية على ألسنة ستة ممثلين، يؤدون مقاطع حوارية متشظية أو يتظافرون في صرخات جماعية بأنين الهشاشة الانسانية التي فاقمها الوباء وفضح أبعاد مغمورة منها، وإن كانت معطى أزليا يطارد الانسان. طبيعة الموضوع وأسلوب المعالجة اقتضى نوعا من التقشف في تأثيت الفضاء، بينما تمركز فن الإضاءة على وجوه الممثلين لأنها موطن إطلاق الصرخة وإنشاد الوضع المأزوم.
يستدعي “عدم” نصوصا فاضحة للشرط الانساني المشروخ، في زمن الوهم بترويض الطبيعة واللوذ بالعلم حاملا للحلول الناجزة. غسيل أدمغة ناعم يحفر باطراد، خلف شعور سطحي بالحرية، “دائرة” تورط الانسان في سجن من صنيع سلط غير مرئية، فردانية مجنونة تفضي الى انفصال الذات عن محيطها في زمن التواصل والعولمة، حتى يغدو الفرد متحدثا عن نفسه بصيغة ضمير منفصل ل “آخر” غريب عنه.
رسائل قوية تسافر الى الجمهور عبر أداء صوتي تعبيري بظلال موسيقية موحية، وبتوظيف حيوي لحركة الجسد، بوصفه آلة الممثل، والأثر البصري للكلمة.
يشكل “عدم” من ناحية إدارة الممثل تجربة واعدة، في غياب الاعتماد على أسماء محترفة ممن سبق أن ساهم في تألق الفرقة، على اعتبار أن الممثلين الستة، مناصفة بين ذكور وإناث، هم من أوائل خريجي مشروع “استوديو الممثل” الذي يتوخى استكشاف وصقل مهارات شباب المسرح في العاصمة الاسماعيلية. صفق الجمهور طويلا لأداء إيمان الكبابري، أشرف الحيبور، فكير جمال، عمر فرموج، فردوس بلخير وهالة السنتيسي.
جاءت تجربة هذه المحطة من مسار فرقة “الشامات”، حسب تصريح بوسلهام الضعيف لوكالة المغرب للأنباء، سليلة الإحباط الذي تملك مسرحيين مكبلين بقيود وباء التهم الفضاء العام والخاص، غير قادرين على ممارسة مهنتهم وشغفهم الأول. في زمن المسارح المغلقة والنشاط الثقافي المشلول، تمخضت فكرة الاشتغال مع شباب مدينة مكناس، من خلال تداريب في الهواء الطلق والساحات.
يتفاعل العرض مع اللحظة لكن ليس بطريقة مباشرة، يقول المخرج، “لقد عدنا الى نصوص شعرية وأدبية عالمية، مع مسرحتها بما يعكس اللحظة اليومية المباشرة. لا يتحدث عن الوباء في حد ذاته، بل عن هشاشة وعزلة الكائن والأشياء التي كشفها الوباء مع أنها قديمة متجذرة في الوجود الانساني”.
العرض الذي هو انتاج ذاتي للفرقة، بمثابة افتتاح للموسم المسرحي بمدينة ظلت واحدة من معاقل أب الفنون في المغرب، فرجة وتأليفا ونقدا، ولو أن الفضاء الثقافي العام يتسم بنوع من البرودة، على حد تعبير الضعيف. إنه فعل “مقاومة” يشد على جذوة الأمل في انطلاقة حقيقية ومستدامة للنشاط الثقافي.
ويعزز “عدم” تراكما فرجويا نوعيا من إبداع فرقة الشامات التي أثمرت منذ تأسيسها عام 1998 العديد من المسرحيات الناجحة والمتنوعة من حيث النصوص والأشكال، من قبيل “العوادة” التي أخرجها واقتبسها بوسلهام الضعيف عن نص “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” للايطالي لويجي بيراندللو، و “حسن الوزان- ليون الافريقي” التي ألفها أنور المرتجي، و”كل شيء عن أبي” المقتبسة عن رواية “بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات” للكاتب المغربي محمد برادة و”الموسيقى”، المقتبسة عن رواية الياباني يوكيو ميشيما. اختيارات تعكس هاجسا مزمنا في مسار فرقة مسرحية باستكشاف عوالم أدبية ابداعية وازنة من هنا وهناك.
نزار الفراوي