لا يعدّ مفهوم الدولة الفاشلة بأبعاده الفكرية والسياسية، مفهوماً جديداً للدلالة إلى واقع الدول في علاقتها بوظائفها الأساسية الأمنية، الاقتصادية، الاجتماعية والسياسية. فسجل التاريخ حافل بنماذج كثيرة لدول في مرحلة من مراحل تطوّرها، فقدت السيطرة الأمنية-العسكرية على كل أو جزء من ترابها الوطني، أو عجزت عن تلبية جزء أو كل من الطلب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لسكانها. هذه الوضعية إما أنها تنشأ لاعتبارات داخلية بخلفية مناطقية أو طائفية تنازع في شرعية السلطة الحاكمة أو في عدالة سياساتها على المستوى الترابي، أو أنها تنشأ بفعل عامل خارجي نتيجة للموقع الجغرافي أو الصراعات الإقليمية والدولية على المصادر الطبيعية والممرات البحرية والنهرية، وقد تجتمع هذه العوامل كلها، خصوصاً عندما تصادف ضعفاً بنيوياً في طبيعة تكوين الدولة نفسها.
وقد مثلت دراسات كل من هيرمان وراتنر وزارتمن في بداية التسعينات من القرن الماضي، أولى الدراسات المحكمة التي استهدفت الإحاطة العلمية بمفهوم الدولة الفاشلة، وعموماً يمكن القول إنه ليس هناك اتفاق حول تحديد دقيق لتصنيف دولة ما على أنها دولة فاشلة، وإن كانت المعطيات المتعلقة بشرعية السلطة وقدرتها على احتكار العنف ودرجة الاستجابة للطلب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي تعتبر محدداً حاسماً في هذا التصنيف. وقد أوضح تشارلز تي كول بدقة مؤشرات الدولة الفاشلة، بما يسميه “إطار الفجوة”، وهو متكوّن من ثلاث فجوات، الأولى عجز الدولة عن تلبية الطلب على الخدمات والسلع الرئيسية، والثانية العجز الأمني والثالثة تتمثل في تراجع شرعية النخب السياسية الحاكمة وضعفها.
كيف يمكن الربط بين الدولة الفاشلة، وهو المفهوم الذي ارتبط طويلاً بدول مثل الصومال واليمن وسوريا وليبيا، وقبلها دول مثل أوغندا وإثيوبيا وهايتي، وتونس التي كانت منطلق ما اصطُلح عليه إعلامياً وسياسياً “الربيع العربي”، بحيث دخلت البلاد بعد سنة 2011، في دوامة فارغة وصراعات بين النخب السياسية والحزبية، وشكل ذلك بيئة مثالية لتمدد الفساد وتراكم العجز الاقتصادي وضعف العرض الاجتماعي، وكان لوباء كورونا مساهمة معتبرة في تكريس واقع مريض، قاد في النهاية رجلاً بسيطاً بدون خبرة سياسية أو حزبية، إلى رئاسة الجمهورية بنفَس شعبوي. وزاد الأمر سوءاً بعد القرارات الانقلابية ليوم 25 تموز (يوليو ) التي واجهت معارضة واسعة، ذلك لأن قيس سعيد الذي استثمر في الغضب الشعبي على النخب الحزبية/ السياسية، تجاوز ذلك إلى سعي مستمر لتغيير بنية النظام ككل، وهو ما ضمنه الدستور الجديد الذي حمل تراجعات كبيرة مست شرعية المؤسسات، بما فيها مؤسسة الرئيس، وهذا المستوى السياسي، كانت له تداعيات وآثار اقتصادية واجتماعية وأمنية تثير المخاوف على مستوى حوض البحر الأبيض المتوسط، خاصة في الضفة الشمالية. فهذه ميلوني رئيسة وزراء إيطاليا تعلق على الوضع في تونس بقولها إن “المشكلة الهائلة المرتبطة بعدم الاستقرار في تونس وانهيارها في نهاية المطاف؛ مشكلة غير قابلة للحل منذ تعليق صندوق النقد الدولي المفاوضات… وهو ملف أعمل عليه كل يوم… تُترك إيطاليا وحيدة لمواجهة مشكلة لا يمكنها مواجهتها بمفردها… سنواجه مشكلات متعددة الأبعاد في حالة انهيار تونس مع تأثير فوري على الاتحاد الأوروبي، من حيث عدم الاستقرار في البحر الأبيض المتوسط”. خلاصة ميلوني القاسية يتقاطع معها جوزيف بوريل رئيس المفوضية الأوروبية الذي قال بداية الأسبوع الماضي إن الأوروبيين يشعرون بالقلق إزاء تدهور الوضع السياسي والاقتصادي في تونس ويخشون انهيارها، مضيفاً أن “الوضع في تونس خطير للغاية”، محذراً من النتائج الكارثية التي ستنجم “إذا انهارت تونس، فإن ذلك يهدد بتدفق مهاجرين نحو الاتحاد الأوروبي والتسبب بعدم استقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. نريد تجنب هذا الوضع”. كما أكد بوريل في تصريحاته أن “الاتحاد الأوروبي لا يمكنه مساعدة دولة غير قادرة على توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي”. وشدد بوريل في السياق ذاته على أن “الرئيس قيس سعيّد يجب أن يوقّع اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي وينفّذه، وإلا فإن الوضع سيكون خطيراً للغاية بالنسبة لتونس”. لأن الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يساعد بلداً عاجزاً عن الوصول إلى اتفاقية مع صندوق النقد الدولي.
التعقيدات التي تعيشها تونس اليوم تثير القلق، تفرض تحديات كبيرة وتحمل مخاطر جدية يمكن أن تعصف بكل المكتسبات التي تحققت، بحيث في الظاهر تبدو الوضعية الحالية وكأنها تعكس وضعية أي بلد يعرف ثورة وسعياً للبناء الديموقراطي، على أنقاض بنية غارقة في الفساد، هنا يبرز التحدي الأكبر؛ سواء على مستوى الدولة أو الشعب، وهو تحدي بناء التوازن بين الطلب الاجتماعي والسعي لتلبيته ومحاربة الفساد، وعدم رمي الصبي مع ماء الغسيل… أي عدم إشاعة اليأس في جدوى البناء الديموقراطي على خلفية عجز الدولة عن تلبية كل الطلب الاجتماعي أو الحد الكلي من الفساد، مع الاعتراف بأن التحول الديموقراطي ليس له طابع خطي، بل يواجه تحديات مستمرة يجب كسبها بروح جماعية تحافظ على مقدرات البلاد واستقرارها.
الوضعية الحالية لا يمكن تجاوزها سوى بالمزيد من الثقة بين كل الأطراف التي من واجبها عدم الاستثمار في كل ما يهدد السلم الاجتماعي، والترفع عن التوظيف السهل للغضب الشعبي من أجل تحقيق مكاسب سياسية أو انتخابية يعلم الجميع أنها بلا قيمة، إذا لم يستمر جو التوافق الوطني للتغلب على التحديات الاقتصادية الجدية والتي تعتبر المحرك الأساسي للسخط الشعبي على الطبقة السياسية ما بعد نظام بن علي.
يجدر بنا التذكير هنا بأن انتفاضة ما سمي بالربيع العربي بقيت معزولة عن أي دعم دولي جدي، عكس الاحتضان الأوروبي مثلاً لكل من تجارب الانتقال الديموقراطي في كل من اليونان وإسبانيا والبرتغال وبلدان المعسكر الشرقي سابقاً، مثل بولونيا وبلغاريا وتشيكيا وسلوفاكيا ورومانيا… بحيث إن تجارب الانتقال الديموقراطي في الغرب، لم تنجح بالصدفة، ولكن لأنها وجدت بنيات اقتصادية قوية احتضنتها، واستطاعت بذلك أن تخلق أجواء سهّلت عملية الانتقال.
تونس بحاجة إلى التفاتة دولية لأجل إنجاح تجربة ما زالت تقاوم إلى اليوم، لكنها بحاجة أكثر إلى وحدة وطنية وترك خطاب التخوين والحسم في طبيعة النظام السياسي، ودون ذلك فإن البلاد قد تنزلق إلى المجهول.
ويقول الكاتب رابح الخرايفي في كتابه الصادر سنة 2021 “الفساد والدولة الفاشلة: تونس أنموذجاً”: “يمكن أن تكون الديموقراطية في معظم الأحوال عاملاً من العوامل المقاومة للفساد، غير أن هذا الاستنتاج لا يحجب فرضية أن تكون الديموقراطية في الوقت ذاته فاسدة وغطاءً للفساد بحجبها له، فينمو في ظلها وتنتشر ثقافته. وجب علينا أن ننتبه للعلاقة ذات التأثير المتبادل ما بين الديموقراطية والفساد غالباً ما يهملها، أو يتغافل عنها كثير من الباحثين والسياسيين بحجة القناعات، والمعتقدات الراسخة لدى عموم الناس، وهي أن الديموقراطية تقضي على الفساد، وتجفف منابعه، وتمنع انتشاره، متغافلين عن إمكانية أن تكون الديموقراطية غطاءً للفساد”…