-د. محمد شبير-
هل تموت الهويات بحياة الإنسان؟ هذا هو السؤال الذي يلقيه العنوان في نفوسنا، ويحمل نسبة مهمة من الصدمة، وتزداد هذه الصدمة حدة عندما يكون الجواب “نعم إن الهويات تموت بحياة الإنسان في العالم المعاصر، وهنا ننتقل إلى السؤال العلمي المجرد والشمولي: كيف تموت الهويات بحياة الإنسان في عالمنا المعاصر؟ ولأن الإنسان يتجاوز نفسه باستمرار فإن سؤال الكيف لا يكون له معنى إلا بسؤال آخر: لماذا تموت الهويات في عالمنا المعاصر بحياة الإنسان؟
كان يعقد أن الهوية ميراث الإنسان من سابقيه، وعليه أن يحافظ على هذا الميراث، ليسلمه للأجيال اللاحقة، ويعلمهم كيف يحافظون عليه، وهذه الديمومة والاستمرارية التي تساكن هذا المفهوم للهوية، باعتبارها شكلا من أشكال الانتماء المستدام، يلغي الاستدامة في الإنسان، لأنه يتحول إلى آلة تكرر السابقين، ويقتصر دوره على التقليد، ويتحول كل ما يقوم به هذا الكائن إلى “محاكاة سلبية، وكأنه لا فاعلية له، فيفهم هذا التشيؤ بأنه سلب لماهية الانسان، ليتحول إلى آلة مقلدة للماضي البشري.
يعكس الصراع الدائر بين النزعات الفردية والجماعية تجاه ما يجب أن تكون عليه الهوية نوعا من الإرجاء لفاعلية الإنسان، لفسح المجال للعلم حتى يقول كلمته في هذا الموضوع، ولأنه موضوع تحت مجهر الدراسة فإنه يفقد ما تبقى له من الفاعلية، ليس لأنه دخل دائرة المفعولية فقط، بل لأنه أصبح موضوعا للصراع والاستحواذ، أي غنيمة العلم والدراسة، فكيف لهذا المعطى المفقود أن يكون فاعلا يفتقد موضوعا آخر ويتفقده؟
إن الجزء المسؤول عن هذا الاغتراب في العقل هو تلك الباحة المحفزة للشعور بالانتماء “في الماضي”، مما يجعل الهوية واقعة قبل الوجود وثابتة، وكلما تاه الإنسان عن ذاته وجب عليه أن يعود إلى ما قبل وجوده (الماضي)، ليتأكد ممن يكون، وهذا حال الفكر السلفي في التيارات كلها، بحيث يمكن الحديث عن السلفيات الدينية والعرقية والسياسية.. وحتى الفكر اليساري الذي يدعي الحداثة فله سلفياته، ولن نخجل بالحكم – وإن كان حكم قيمة- أن ضلال العقل حاصل في السرعة التي يعود بها إلى الخلف، وهي أضعاف سرعة سيره إلى الأمام..
في عالمنا المعاصر، لعبت الهجرة دورا مهما في هندسة العلاقات الاجتماعية، وساهمت الزيجات المختلطة في نشر مجموعة من الجينات الرافضة للنكوص والانتماء إلى الماضي، وقد تغيرت أسباب العيش بهيمنة الرأسمال التكنولوجي على الحياة، ولم يعد الفرد فردا، لأنه لا يعيش وحيدا حتى في الحالات التي يكون فيها وحيدا في حيز جغرافي مادي معلوم، لأنه أصبح منتمٍ لعوالم افتراضية متناسلة باستمرار. إنه ضلال آخر، لكنه يهدم الضلال السابق، أصبح الفرد كطفل صغير تحمله معك في تطبيق من تطبيقات هاتفك، أينما حللت، وأنت محمول في هواتف الآخرين بالمقاس نفسه، أليس هذا الجنون كافيا للحكم على الهويات بأنها أوهام العقل البشري، وفيما نعتقد أن نشاط الجزء المسؤول عن الانتماء هو الذي يجعل العقل يصنع هذه الأوهام، أليس من الحمق أن يصدقها هذا العقل؟
الهوية إذن، ليست حاصلة في الماضي، وليست حاصلة في الحاضر، هل يعني الأمر أنها في المستقبل وتجرنا إليها باستمرار؟ ألن يكون هذا التأويل لاهوتية أكثر من اللازم؟ أعترف بصعوبة هذه المهمة، فليس في الحياة أكبر من هذا الشؤم حين يبحث الإنسان في الإنسان عما يجعله إنسانا، ويصنع مفهوم الإنسانية ليلخص عجزه، أو ليبحث في القردة أو في الذباب أو في أي كائن آخر عن مورثات تستطيع تفسير كلمة “إنسان”، وما العلوم الإنسانية إلا روائز قوية للحديث عن موت الهويات في عالمنا المعاصر، البيولوجيا والأركيولوجيا والأنثربولوجيا والسيكولوجيا.. كلها تعرف بأنها “علم الإنسان”، ولكنها تثبت في النهاية أو التقديم أو عمليات الافتراض أن الانسان كائن ملتبس، أي لا هوية له..
إن أعنف نعمة أعطيت للإنسان هو هذا العقل الذي دمّر مناحي وجودها كلها، ولما ظن أن الحياة المعاصرة وفرت للإنسان شروط الحياة كلها، بدأ العقل “الطبيعي” يفكر في صناعة نقيضه “العقل الاصطناعي”، لأنه بدأ يدرك عجزه عن التفكير، وعليه أن يصنع ما ينوب عنه، لكنه يغفل جانبا مهما من المعاناة، وهو أنه يصنع من يلغيه وصيّره إلى العدم، وقد شرع في تجريب مجموعة من التطبيقات وتطوير أخرى، وهذا ينبئ بتحول الحياة إلى إلكترونات منتشرة في كل موضع، لأن الحياة المادية الملموسة ستصبح وهما، والحياة الوهمية “الافتراضية” هي التي ستسمى الحياة الواقعية، ولأول مرة سأدرك أنني “أنا” الذي أتحدث هنا والآن، لست “أنا” بل هذا الآخر الذي يلغيني ويصنع بي قناعا ليتجرد من المسؤولية، فيجعلني في الواجهة لأتحمل عنه المسؤولية، إنها سردية عصر التكنولوجيا التي تقتل الهويات باستمرار..
د. محمد شبير. باحث في قضايا الفرجات والمسرح والهويات
القنيطرة أبريل 2023