-مصطفى ملو-
تسود عند القبائل الأمازيغية في الجنوب الشرقي المغربي معتقدات يتداخل فيها الديني بالخرافي-الأسطوري ومن أمثلة ذلك “تيوورا ن ييكنا” التي تعني “أبواب السماء”، فما فحوى هذا المعتقد؟
معنى ودلالة تيوورا ن ييكنا في مخيال الجنوب الشرقي
يفيد معتقد تيوورا ن ييكنا في مخيال أهالي جنوب شرقي المغرب أن أبواب السماء تفتح في ليلة القدر ليستجاب للدعوات وتلبى الطلبات، لذلك تجد معظم الناس ينتظرون هذه الليلة بفارغ الصبر لعلهم يكونون من المحظوظين الذين تنشق في وجههم السماء، ليطلبوا ما أرادوا ويمنوا ما أحبوا والذي حسب اعتقادهم سيتحقق لا ريب.
شروط تحقق تييورا ن ييكنا
كي تفتح لك السماء أبوابها-وفق ذات الاعتقاد-، فلابد من توفر شروط التقوى والورع والزهد في الدنيا والإيمان الكامل والقبلي بأن كل ما ستطلبه سيتحقق، أما إذا ساورك أدنى شك وإن لم تجهر به، أي حتى إذا ارتبت في الأمر ولو بينك وبين نفسك ككواعتقدت أن ذلك محض خرافات وأساطير فلا تنتظر شيئا.
بناء على تلك الشروط، فإن”تيوورا ن ييكنا” لا تفتح لكل من هب ودب، بل للأخيار الأتقياء دون غيرهم، لهذا ليس غريبا أن يسارع الناس لفعل الخيرات بالتصدق على الفقراء وتجنب الكلام الفاحش وتفادي الاعتداء على الغير مع الإكثار من الصلاة والاستغفار أياما قبيل الليلة الموعودة.
الطريف في الأمر أنه في مناطق أخرى، يعتقد أن انفتاح السماء ليس متاحا للأبرار فقط، إنما للأشرار والزنادقة والفساق أيضا، والفرق أن الأوائل يرون عند انفتاحها أشياء جميلة كالأنهار الجارية وكنوز الذهب المكدسة والأموال وجميع أنواع الفواكه والأطعمة اللذيذة والمروج الخضراء…(فيما يشبه الجنة)، أما الأشرار فتظهر لهم الأفاعي السامة وهي تسعى والنيران الملتهبة والوحوش الضارية… (فيما يشبه جهنم)، وإذاً، فانفتاح السماء في كلتا الحالتين إما بالخير للطيبين أو بالشر للخبيثين، يمكن أن نفهم منه حسب هذه المعتقدات، بأنه بمثابة إخبار مسبق للمعني بالأمر بما سيكون مصيره في عالم ما بعد الموت!
تيوورا ن ييكنا أو انفتاح أبواب السماء في الإسلام
المثير للاهتمام هنا، أن الكثيرين يربطون انفتاح أبواب السماء الراسخ في أذهان الناس حد اليقين، ليس في الجنوب الشرقي فحسب، بل في مناطق شاسعة من المغرب وحتى في دول أخرى بالدين الإسلامي، دليلهم في ذلك ما ورد في القرآن الكريم من وصف ليلة القدر حيث “تنزل الملائكة والروح”، وكذا استنادا إلى عشرات الأحاديث النبوية التي تتحدث عن أوقات وشروط انفتاح أبواب السماء، منها ما رواه ابن مسعود (ض) أن الرسول الله (ص) قال: “إذا كان ثلث الليل الباقي يهبط إلى السماء الدنيا، ثم يفتح أبواب السماء… “، وما رواه جابر (ض) أن الرسول (ص) قال: “إن تُوب بالصلاة فتحت أبواب السماء و استجيب الدعاء”، و عن أبي هريرة (ض) قال: قال رسول الله (ص) “ما قال عبد لا إله إلا الله قط مخلصا، إلا فُتحت له أبواب السماء”، و مما روي عن أبي هريرة أن الرسول (ص) قال: “تُفتح أبواب السماء كل اثنين وخميس..”.
نستنتج من هذه الأحاديث أن انفتاح السماء ليس مرتبطا في واقع الأمر بوقت محدد ولا بليلة معينة كما هو متداول، وإن كان هذا الانفتاح أكثر احتمالا للحدوث في بعض الأوقات من غيرها (ليلة القدر، الاثنين والخميس، بعد منتصف الليل…).
كل هذا يجعل الكثيرين-كما قلنا سلفا- يؤصلون لانفتاح أبواب السماء بظهور الرسالة المحمدية، إلى درجة دفعت البعض إلى الإفتاء بأن؛ “كل ضوء في ليلة القدر لا يصدر عن برق أو نيزك يعتبر من علامات ليلة القدر”، كما أكد عضو مجلس الشورى والمستشار القضائي بوزارة العدل السعودية الشيخ عبد المحسن العبيكان في مقال إخباري نشرته قناة العربية على موقعها يوم الأحد 7 أكتوبر 2007 بعنوان؛ “أهالي قرية سعودية يؤكدون مشاهدتهم علامة ليلة القدر”.
انفتاح السماء في حضارات وديانات أخرى
الحقيقة عكس ما يُعتقد من كون انفتاح السماء معتقد مرتبط بالإسلام، ولا أدل على ذلك أن هذه الفكرة لها جذور فرعونية كذلك، حيث كان عند المصريين القدامى اعتقاد شبيه إلى حد كبير بـ “تيوورا ن ييكنا” وما يحدث في “ليلة القدر”، وذلك قرونا طويلة قبل ظهور الإسلام.
والغريب في الموضوع، أن الفراعنة كانت لهم نفس الشروط التي يؤمن بها أمازيغ الجنوب الشرقي للفوز بانشقاق السماء، إذ يؤمنون هم أيضا بأنها لا تجود بفتح أبوابها إلا للأخيار الذين اصطفاهم الإله الأعظم ليكونوا من المنعم عليهم في الدار الآخرة، وفي ذلك يقول صبحي سليمان في كتاب له بعنوان “أسرار الهرم الأكبر” ص36 و37: “ورد ذكر انشقاق الهرم في إحدى برديات السحر في عصر الأهرام التي تصف معجزات الهرم الأكبر الذي تنشطر واجهته إلى شطرين في ليلة معينة من ليالي الربيع ويعبر عنها بـ “ليلة القدر” وهي اللية التي خلق فيها الإله الأعظم الأرض، وبعث فيها الحياة وقدر للكائنات مصيرها ولا تتأتى رؤية تلك المعجزة إلا لمن ينعم عليه الإله ومن يحظى برؤيتها يكتب له الخلود في العالم الآخر”.
إلا أنه وحسب نفس الكاتب، فإن فلكيين بريطانيين توصلوا إلى تفسير علمي لانشقاق الهرم، إذ أكدوا أن لا علاقة لذلك بمخلوقات غيبية على عكس ما كان يعتقد.
وكما عند الفراعنة، فالاعتقاد بانفتاح أبواب السماء موجود في بعض الديانات القديمة التي كانت تنظر إلى السماء باعتبارها عالما علويا تسكنه الآلهة (آلهة السماء) وترفع إليه الأرواح، وفي الديانتين اليهودية والمسيحية، “فالسماء هي غاية الإنسان القصوى حيث فيها يحقق أعمق رغباته والسعادة الفائقة والنهائية وفيها تعيش الروح في نعيم لأن فهمها لله يزداد وتشعر أنها أقرب إليه”، كما جاء في مقال بعنوان: “رأي الكتاب المقدس في السماء منشور في موقعjw.org ، بل إن الإنجيل نفسه مليء بعشرات القصص التي تحكي عن انفتاح السماء، ومنها ما ورد في إنجيل متى؛ “فلما تعمد يسوع، صعد من الماء في الحال وإذا السماوات قد انفتحت له”، وفي إنجيل مرقس؛ “وحالما صعد من الماء، رأى السماوات قد انفتحت” وعند يوحنا؛ “رأيت الروح ينزل من السماء بهيئة حمامة”، وفي موضع آخر؛ “إنكم سترون السماء مفتوحة”.
والملاحظ حسب الإنجيل أن السماء لم تفتح لعيسى فقط، بل لبعض تلامذته وأتباعه كإستفانوس ويوحنا… كما أنها لم تفتح فقط في وجه الأبرار، بل كذلك للأشرار بالشياطين والوحوش والنار والنجاسة…وهو ما يجعل الاعتقاد المسيحي بانفتاح السماء شبيها بما يعتقده بعض سكان الجنوب الشرقي فيما يتعلق بعدم اقتصار هذا الانفتاح على الطيبين فقط كما سلف.
والجدير أنه كما لا يرتبط انفتاح السماء في الإسلام بليلة محددة ولا بوقت بعينه، فكذلك الأمر عند المسيحيين، حيث انشقاق السماء ممكن في أي لحظة وفق شروط وظروف معينة.
كل الذي تقدم يظهر أن الاعتقاد بأن السماء عالم مسكون وآهل بمخلوقات غريبة، وبأن أبوابها تفتح لأسباب كثيرة وفي عدة أوقات قديم قدم الإنسان نفسه، فقد اعتبرت على مر الأزمان عالما غامضا حافلا بالأسرار، عالما استهوى الإنسان الذي تطلع إليه ونسج حوله الحكايات والأساطير وعمل على إرضائه بالدعاء تارة وبتقديم القرابين تارة أخرى، حتى يجود عليه بخيراته.
وبالتالي يمكن القول بأن فكرة انفتاح السماء لم تكن ذات جذور إسلامية ولا اعتقادا إسلاميا صرفا كما هو شائع، أو على الأقل لم يكن ظهوره مرتبطا بنزول القرآن الكريم والدعوة المحمدية.
نصائح وطرائف تييورا ن ييكنا
بالعودة إلى الجنوب الشرقي المغربي وإلى “تيوورا ن ييكنا” أو”أبواب السماء”، فإن بعض المسنين في المنطقة يقسمون بأغلظ أيمانهم مؤكدين أنهم شاهدوها بأم أعينهم وهي مفتوحة، واصفين شعورهم في تلك اللحظة بأنه مزيج من الخوف والفرح، مما يصيب المرء بالارتباك والحيرة في تلك الأثناء، خاصة وأن ذلك يكون فجائيا وبلا سابق إنذار ولا يدوم سوى دقائق معدودة، وهو ما يسبب تسرعا في “تقديم الطلبات” قبل أن تغلق تلك الأبواب من جديد، إلى درجة أنه قد يفوت عليه الفرصة ولا يطلب شيئا، أو قد يطلب عكس ما كان يود تحقيقه، كما حصل لإحداهن وكانت مؤمنة، ورعة، زاهدة، تجري قصتها على الألسن جيلا بعد جيل، ملخصها أنها بينما كانت تطل من كوة في بيتها تراقب السماء في ليلة القدر لعلها تحظى بانفتاح أبوابها، وفجأة وعلى حين غرة، انشقت في وجهها فأصيبت بالذعر الممزوج بالفرح والذهول وقد كانت أكبر أمنياتها أن يطيل الله شعرها حتى يصبح أطول من شعور كل نساء قريتها، وعوض أن تطلب ذلك، فقد طلبت من الله أن يطيل رأسها حتى يصبح أكبر من رؤوس كل نساء بلدتها، وهو الأمر الذي استجيب له حالا ما جعل رأسها يعلق في الكوة!
أما حكاية أخرى عن إحداهن، وكانت هي الأخرى في غاية التقوى والورع، وبينما كانت تنتظر أن تفتح لها السماء أبوابها ذات ليلة قدر، ولما تأتى لها ذلك فقد أرادت أن تطلب “الجنة والمال والرجال”، ولأنها لم تكن تعرف العربية من جهة كما أصيبت بالارتباك من جهة أخرى، فقد طلبت؛ “الجنة والمال وإرجدالن”، وفعلا-حسب ذات الرواية- فقد رزقت مالا وفيرا وأبناء ذكورا لكنهم عُرج، حيث “أرجدال” بالامازيغية يعني الأعرج وجمعه “إرجدالن”، أي العُرج.
بناء على هذا الروايات، فإن أكبر نصيحة يقدمها من مروا من نفس التجربة لمن ينتظر انفتاح السماء في ليلة القدر هي التريث وضبط النفس ولم لا إعداد “لائحة المطالب” و”عريضة المتمنيات” و”ترتيب الأولويات” مسبقا وإلا حصل لهم ما حصل لصاحبة “الرأس الطويل” و”أم العُرج”!
الخلاصة أنه بمقارنة ما هو منتشر في هذه المناطق بما جاء في الإسلام والمسيحية، نجد أن من أهالي الجنوب الشرقي من لا يربط انفتاح السماء بالضرورة بليلة القدر، وإن كانت هذه الليلة هي الفرصة الأكبر للظفر بذلك، بل منهم من يؤكد أن السماء انفتحت له نهارا جهارا أو أن من يثقون فيهم ثقة لا تشوبها شائبة ممن يستحيل تكذيبهم حصل معهم ذلك، وليس في رمضان حتى، بيد أن ذلك حسب ذات الروايات لا يكون إلا من نصيب الأتقياء من الدرك الأعلى من الورع والزهد ممن اصطفاهم الله ليكونوا من عباده المحظوظين.
على سبيل الختم
اليوم ورغم أن مثل هذه المعتقدات في تراجع مستمر بفعل تحسن المستوى التعليمي وخاصة في صفوف الشباب والتطور التكنولوجي وظهور نظريات علمية تفسر الظواهر الفلكية والطبيعية والجوية تفسيرا علميا، فإن “تيوورا ن ييكنا” تبقى تراثا شفويا تتناقله الأجيال وتحكي عنه الكثير وإن صار من المستحيل أو من الصعب إقناع جيل اليوم باحتمال وقوعها فما بالك بصحتها؟!