الأمازيغية: المصباح السري في دهاليز الوجود البشري
ملاحظات على هامش كتاب “ذاكرة العدم” لإبراهيم الكوني
- عبد الله الفرياضي
يحكى عن الفيلسوف الإغريقي ديوجينيس أنه قد خرج ذات ظهيرة، والشمس تمحق الظلال، حاملا بين يديه فانوسا، يذرع به الطرقات باحثا ومنقّبا، وحين سأله الناس من حوله باستغراب: ما حاجتك إلى مصباح، وقد أغنتك شمس الهاجرة عن كل نور؟ أجابهم بلسان أهل السّر: “لأنني أبحث عن الإنسان”. وكذلك أطل علينا الفيلسوف والأديب الليبي إبراهيم الكوني في كتابه الجديد: ” ذاكرة العدم: الشهادة في حقّ الإنسان الهجري”، شاهرا مصباح لغته الأم: اللغة الأمازيغية، لينقب بنوره عن الأثر الغائب في دهاليز الروح، عن الكائن الذي توارى خلف أطياف الزمان، عن الإنسان الهجري الذي صار أثرًا بعد أن كان حضوراً.
ولما كان الكوني قد عرج إلى سدرة الفكر، وارتقى إلى مقام الصفوة بين أنبياء الأدب، بفضل غزارة إنتاجه الذي ربا على التسعين متنا، ألفها كلها بلغة عربية مترعة بالفصاحة والبيان (ترجم أغلبها إلى أكثر من أربعين لغة)، بدا لنا السؤال مشروعا عن سبب وطبيعة حضور اللغة الأمازيغية في هذا المتن، كما في بقية متونه الأخرى.
فلماذا يُصِرُّ الرجل، إذن، على استدعاء الأمازيغية في متونه “العربية”؟ أهو انحيازٌ خفيّ إلى حوارية باختين؟ أم افتتانٌ بتناصّ كريستيفا؟ أيستحضرها لمجرّد التزويق اللفظي وتأثيث الفضاء اللساني لنصوصه؟ أم لتنهض بوظيفةٍ خفية في معماره الإبداعي ورؤيته الفلسفية؟
قول في اللغة ولغة العرب
قبل الخوض في سبب وطبيعة حضور اللغة الأمازيغية في المتون “العربية” لإبراهيم الكوني، يجدر بنا بداية أن نفهم رؤية الرجل للغة ذاتها، لنسائله بعد ذلك عن موقفه من اللغة العربية. ففي تقديمه لموسوعته السباعية: “بيان في لغة اللاهوت”، يؤكد الكوني أن “اللغة ليست قانونا موضوعا من قبل العلماء، أو مؤلفي المعاجم” بقدر ما هي “حصيلة عمل، حاجة، علاقة، فرح، هوى وذوق أجيال الإنسانية السالفة من خلال امتلاكها أسسا حميمة الصلة بأمنا الأرض”.
وهي الرؤية ذاتها، تقريبا، التي انتبه إليها فتجنشتاين حين شدد على علاقة التَّضَمُّن بين اللغة والفكر وتعالقهما مع الواقع، حتى أنه عزا المشكلات التي أثارتها الفلسفة إلى سوء فهم اللغة، ليدعو الفلاسفة، تبعا لذلك، إلى البحث عن المعنى بواسطة اللغة، لكن ليس بوصفها، دوما، أداة للتواصل والإفهام، وإنما من حيث هي، كذلك، أداة تورية وإبهام. تقتضي هذه الرؤية، إذن، وعلى وجه الوجوب، الاشتغال على اللغة عند الكوني بوصفها انعكاسا حيا لحياة الإنسان وتجربته، لا بوصفها محض قواعد جامدة يمكن تعلمها لتحقيق التواصل بها دون فهم سياقاتها الثقافية والاجتماعية.
يحيلنا هذا التعريف، الذي حدَّ به الكوني اللغة، إلى استنطاق موقفه من اللغة العربية، بوصفها الحامل اللساني لإبداعاته الأدبية والفلسفية. لكن قبل أن نقدم على استجلاء ملامح هذا الموقف، دعونا نتعرف أولا على مواقف ثلاثة مثقفين أمازيغ آخرين من اللغات التي أبدعوا بها، وساروا على دروبها باختلاف النفوس والمصائر.
حيث نجد الأديب الفرانكفوني كاتب ياسين، لا يتحرج من التعبير عن موقف متشنج من اللغة الفرنسية حين وصفها، في القولة المأثورة عنه، بأنها “غنيمة حرب”، وكأن كلماتها قفص من حديد، والنطق بها ثمنٌ يجب دفعه من حرارة الجرح والذاكرة. فيما عَدَّ الأديب العربفوني محمد شكري، العربية “أداة اغتراب” بالنسبة إليه، ما دامت عاجزة عن “إسعافه في التعبير”، ليظل محاصَرًا في هذه الغربة اللغوية، “لا يجد متنفسًا ولا فرجًا إلا حين ينطق لغته الأمازيغية الأم” (مجلة مجرة، عدد 7، 2003)،
أما العلامة محمد المختار السوسي فقد حمله الخوف من انتزاع النخبة الفرانكفونية للسلطة من رجال الدين، الذين يُعَدُّ أحدهم، على إضفاء مسحة من القداسة على اللغة العربية، بوصفها أداته الوحيدة لمصادرة السلطة باسم الدين، حتى ولو أدى ذلك إلى اغترابه عن لغته الأم، واقتراف خطيئة ازدراء الذات، نحو قوله بالحرف والكلمة: “فالإنسان بذوقه، وبما يستحليه عند التعبير، لا بما رضعه من ثدي أمهاته، واللسان بما تتفتح له به المعاني الحلوة، لا بما يتهدج به من لغة يرثها، لا تعد من نبع ولا غَرَبٍ” (المعسول، ج1).
وعلى النقيض من مواقف هؤلاء الأعلام الثلاثة، تفرد إبراهيم الكوني باجتراح موقف مغاير وجريء من اللغة العربية، منظورا إليها بوصفها لغته الإبداعية. موقف قوامه الارتياح لها والاعتزاز بها، لا لقداسة تختص بها، ولا لميزة تعلو بها على سائر اللغات، وإنما لاكتشافه حبلا سريا يصلها بروح لغته الأم، لغته الأمازيغية، التي هي في نظره رحم ولادة العربية، وموئل انبثاق كل لغات المعمور، والينبوع السرّي الذي تجري فيه الحروف، فتتفتح الروح على أفق الكلمة الأولى، وتتنفس النفس طعم الانتماء إلى أصلها العميق.
فعلى الرغم من أن العربية قد صارت اليوم لغة ميتة، أو منسية بعبارة ألطف (لأن كل لغة لا تُفهم إلا من خلال القواميس، هي بالضرورة لغة ميّتة)، ورغم أن الرجل لم يشرع في اقتنائها إلا في مرحلة متأخرة من طفولته، وعلى الرغم، أيضا، من إتقانه لتسع لغات حية، بوسع أضعفها انتشارًا أن تفتح له أبواب الشهرة كما نصحه بعضهم، فإنه قد اختار أن يسبح في نهرها الإبداعي، مبدعًا فيها وبها. فالعربية عنده ليست مجرد كلمات، بل رحم لغوي تحيا فيه روحه، وتنبعث معانيه كأسرار خفية، تنفتح على أفق لا ينضب من التأمل والصفاء، فتصبح كل عبارة فيها تنفسًا للروح ومرآة لانتمائها إلى أصلها العميق.
ملبومينا هيرودوت.. مأساة أمة منهوبة
في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد، خطّ هيرودوت ملحمته الخالدة، كتاب «التواريخ»، من تسعة أجزاء، حيث وهب لكل جزء اسم إحدى ربات تاسوع الإلهام لدى الإغريق، ومنها الجزء الرابع الذي خص به الأمازيغ، وأطلق عليه اسم “ميلبوميني”، ربة التراجيديا. ففي هذا الجزء أقر هيرودوت بأن الإغريق، شعبه وقومه الأقربين، لم يكونوا أمام عظمة الأمازيغ غير أطفال خُدَّج، وأن أرقى مظاهر حضارتهم مستلهمة من حضارة الأمازيغ.
قليلون هم من همسوا بهذه الحقيقة، وعلى استحياء شديد، ووحده إبراهيم الكوني أدرك قصدية الاسم، وفهم أن إطلاق اسم “ربة التراجيديا” على هذا الجزء بالذات لم يكن اعتباطًا، ولا محض صدفة، بل كان الوشم المأساوي الذي وسم القدر به جبين أمة أسطورية، مُغَرَّبة، مخدوعة، ومنهوبة، أمة بحجم الأمازيغ.
حدث ذلك حين انهارت حضارتهم، التي كانت تُعرف لدى الأقوام الغابرة باسم “حضارة الأطلنتيد”، بعدما ضرب التصحر مرابعهم في جنة صارت تدعى اليوم “شمال إفريقيا”، ليُجبر القوم على الشتات شذر مذر، ومن ثم الترحال ذات الشرق وذات الغرب بحثًا عن الماء، روح الحياة وقوامها. وحينها تبلبلت الألسن، وظهرت الرطانات والعُجمات، لولا أن الأخلاف، بمن فيهم الإغريق، ظلوا مشدودين إلى الأسلاف بحنين، فاحتفظوا في عُجماتهم بجذور اللغة الأم: اللغة الأمازيغية، لغة البدء، وقلم التكوين، كنبراس يضيء لهم دروب الوجود المبعثرة.
مفتاح أسرار الوجود
وإذ كانت العلاقة الناظمة بين الإنسان والوجود علاقة لغوية في جوهرها، ما دامت اللغة ـ كما يقول هايدغر ـ بيت الكينونة، وكان العالم سيظل مبهماً عصيّا على الفهم ما لم نتوسّل إلى إدراكه باللغة، على حد تعبير فيتجنشتاين، فقد تنبّه الكوني، منذ وقت مبكر، إلى الدور المحوري الذي بوسع اللغة الأمازيغية أن تضطلع به في فكّ شفرات الوجود الإنساني، وذلك استناداً إلى قُدمتها التي تضاهي قِدم أهلها في الوجود. ومن هنا، ربما، انصرف إلى تكريس أعماله الفلسفية الكبرى، وفي مقدمتها ذاكرة العدم وبيان في لغة اللاهوت، لكشف غوامض هذا الوجود عبر تفجير اللغة، والتنقيب في طبقاتها الجيولوجية حيث تستكن المفاهيم المؤسسة للمعنى الأول؛ ذلك المعنى البدئي الذي أودعناه النسيان، على النحو الذي بينه أفلاطون في نظريته عن “الُمثل”.
لا يختزل إبراهيم الكوني الأمازيغية في كونها محض لسان قومي، أو مجرد تراث محلي، بل يزفها كلغة تتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ لتغدو لسان الكينونة الأول، لغة البدء التي نُقش بها الوحي في ذاكرة الوجود. إنها اللغة التي لا تنطق بالحروف فحسب، بل بالسرّ المكنون في الأشياء؛ لغةٌ أقرب إلى نشيد الخليقة منها إلى خطاب البشر. ومن هنا جعلها الكوني قلم اللاهوت، وتعامل معها لا كلغة خلقت لتؤدي وظيفة التواصل اليومي، بل بوصفها اللسان الذي نُقشت به الكلمات الأولى حين كان الإنسان ما يزال مقيمًا في مقام البراءة. ولهذا السبب جعل منها شيفرة الخلق التي تتخفى في حروف وأصوات. ليغدو التنقيب في مفرداتها أشبه بالحفر في طبقات الذاكرة الكونية، حيث الكلمة ليست علامة دالّة بل سرّ مكتوب، وحيث المعجم لا يفسَّر، بل يُستَنطق كما يُستَنطق وحيٌ أو يُتأوّل نص مقدّس.
ولتحقيق غاية استكناه المعاني المستترة للوجود الإنساني، التي جعلها رهان منظومته الفلسفية، يستثمر إبراهيم الكوني علوم اللغة والأدوات النقدية كوسائل للغوص في أصل الكلام وعمق المعنى، حيث يستدعي الإيتيمولوجيا، والفيلولوجيا، والأنثروبو-لسانيات ليفضح بها جذور الكلمات وكوامنها التاريخية وسياقاتها الثقافية والاجتماعية، ثم يتتبع بالمنهج الدياكروني تحولات المفردات عبر الزمن، مستكشفاً كيف تكتسب الكلمات بعداً تاريخياً يربط الماضي بالحاضر. حينها يصبح التنقيب والحفر اللغوي بمثابة رحلة صوفية، يزيل عبرها الكوني طبقات اللغة المتراكمة ليقتفي أثر لغة البدء ولغة اللاهوت، لغة الخلق والروح… أليست المعاجم مقابر الأمم، كما أنبأنا نيتشه؟
حضور الأمازيغية في المتون السردية
إذا ابتعدنا قليلا عن نصوصه التأملية أو الأكاديمية، ذات الأسلوب التقريري المباشر، فإن الروائي العالمي إبراهيم الكوني لا يتورع عن استثمار اللغة الأمازيغية في أعماله السردية أيضا. إذ نجده في كل عمل سردي ينزف به، روائيا كان أو قصصيا، يصر على استدعاء مفردات أمازيغية تبدو غريبة عن اللغة العربية التي يشيد بها صروحه السردية.
في الواقع لا يقحم الكوني اللغة الأمازيغية في متونه السردية لمجرد الزخرفة اللغوية والتزويق اللفظي، أو على سبيل تشكيل فضاء سردي مفعم بالغرائبية، وإنما يستدعى المفردات الأمازيغية لاعتبارات متعددة نخالها وجيهة، لعل أولها ما تحدثه تلك المفردات من “الشرخ الجميل” الذي يمس بنية السرد، نقصد هنا بالطبع أن الغاية هي إحداث نوع من الغربة المقصودة، تلك الغربة التي تُربك القارئ وتدفعه إلى تلمّس معانيها عبر السياق أو الهامش. وبهذا الأسلوب، يعيد الكوني اللغة إلى طابعها البدئي بوصفها لغزا، وسرا، أو طلسَما، وليس مجرد وعاء شفاف للمعنى.
وبصرف النظر عن الوظيفة الرمزية/الميثولوجية التي تؤديها المفردات الأمازيغية المبثوثة في مختلف الأعمال السردية للكوني، اعتبارا لكون كثير منها تنتصب لا كمفردات معجمية، بل علامات ميثولوجية مشحونة بالرموز، تُحيل إلى عوالم أصيلة، وتُعيد استحضار ذاكرة جماعية ضاربة في القدم، فإن ثاني تلك الاعتبارات، تقودنا إلى قراءة توظيف اللغة الأمازيغية في تلك السرود المكتوبة بالعربية، على أنه فعل من أفعال المقاومة الأدبية لمصادرة “اللغة البنت” مكانة “اللغة الأم”، وبالتالي إعادة الاعتبار للمركز الذي صار هامشا. إنها استراتيجية رمزية لتثبيت وجود المهمّش في قلب المتن. يبدو لنا الأمر نوعا من التعريف بالذات، وكأن الكوني يشاطر قرينه في الملة، الأديب الفرنفوني محمد خير الدين، حين صرخ في قصيدته “حيوان تالف”، وأنشأ منشدا: “أنا سليل أمة منسية، لكنني ما زلت أحمل في يدي شعلة من نارهم”.. أليست أمة إبراهيم ومحمد هي ذاتها تلك الأمة المنسية؟ أليست اللغة الأمازيغية هي عينها تلك الشعلة؟
على سبيل الختم
وهكذا يتبدّى استدعاء إبراهيم الكوني للمفردات الأمازيغية في متون حررها بلغة عربية مترعة بالبيان، لا كتزويقٍ لفظي أو زخرفٍ لغوي، بل كوشمٍ سرّي على جبين الذاكرة، وإحياءٍ لشعلة كادت أن تنطفئ في متاهات النسيان. فهي ليست مجرد كلمات تُقال، بل أنفاس تُستعاد؛ وليست أصواتًا تُسمع، بل مفاتيح غيب تُرتجّ بها أبواب الوجود. ومن ثم تغدو الأمازيغية، في المعمار الفلسفي والإبداعي لإبراهيم الكوني، عاملاً مركزياً لفكّ شيفرة الوجود الإنساني، وسبيلًا لاستنطاق السرّ المستتر في الكائنات. وهكذا يصبح فعل الكتابة عنده صلاةً لغوية، يرفع بها الروح إلى مقام الأصل، حيث الكلمة الأولى تنبض في سرّ الخلق، وحيث الأمازيغية ليست لغة قوم، بل لغة البدء ولسان الأبد.