في إطار برنامج انفتاحها على فعاليات المجتمع المدني ومهامها في تعزيز قيم النزاهة وترسيخ مبادئ الحكامة الجيدة، نظمت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، بشراكة مع جمعية شباب تمدولت للثقافة والتنمية، يوم الأحد 28 شتنبر 2025 بمدينة أكادير، اللقاء الجهوي الثالث حول موضوع: «تحفيز الالتزام المواطن والمواطنة الفاعلة في تعزيز الشفافية». ويأتي هذا الموعد ضمن سلسلة لقاءات جهوية تسعى إلى تعميق الحوار الوطني حول مكانة الالتزام المواطن كمدخل أساسي للوقاية من الفساد ومحاربته، وبناء نموذج تنموي يرتكز على النزاهة والشفافية.
وقد ضم اللقاء ممثلين عن الجماعات الترابية والهيئات المنتخبة، إلى جانب فاعلين من منظمات المجتمع المدني، وطلبة باحثين ودكاترة، وكذا إعلاميين ومهنيين من مجالات متعددة، مما أضفى على أشغال الندوة قيمة مضافة، سواء على مستوى المداخلات المبرمجة أو عبر النقاشات التي أثراها الجمهور.
وأكدت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها خلال كلمتها الافتتاحية على انفتاحها على مختلف الفاعلين والتعاون مع المجتمع المدني في الأنشطة والدراسات ذات الصلة. مشيرة إلى أن تعزيز النزاهة والشفافية مسؤولية مشتركة وأن المواطنة الفاعلة والمشاركة الإيجابية تسهم في تجويد الخدمات العمومية وتعزيز الثقة بين المواطن والمؤسسات، في سياق الإصلاحات الجارية بالمغرب.
في نفس السياق أبرز رئيس جمعية شباب تمدولت للثقافة والتنمية أن الالتزام المواطن والمواطنة الفاعلة ركائز أساسية لمحاربة الفساد وبناء مجتمع مسؤول، مشيرا إلى أن برامج الجمعية تهدف لترسيخ قيم النزاهة والشفافية عبر مبادراتٍ للشباب والنساء والفاعلين الجمعويين، تركز على التربية المدنية، وتقوية القدرات، وتشجيع المشاركة الفعلية في النقاش العمومي، من أجل تحسين الخدمات العمومية وتعزيز التنمية المستدامة.
وتركزت أشغال الندوة على إبراز الأدوار المتكاملة للشباب، والإعلام، والمجتمع المدني، والفاعلين المؤسساتيين في ترسيخ الشفافية ومكافحة الفساد. حيث تم تقديم رؤية الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها لتعزيز الالتزام المواطن والمواطنة الفاعلة، استناداً إلى الدستور والتوجيهات الملكية والاتفاقيات الدولية، مع التذكير بالصلاحيات الجديدة التي يمنحها القانون 46.19 للهيئة في مجال الوقاية والمكافحة. وأبرزت المداخلة دور مرصد الهيئة في جمع وتحليل معطيات الفساد لتقييم السياسات العمومية واقتراح الاستراتيجيات، كما أشارت إلى أدوات عملية مثل منصة التبليغ عن الرشوة، وإلى أهمية التربية والتكوين في ترسيخ السلوك المدني النزيه. كما تم التأكيد على أن ضعف العرض المؤسساتي ومحدودية التزام الأفراد، خاصة الشباب، يشكلان عائقاً أمام المشاركة المدنية، وهو ما يستدعي تطوير العرائض الإلكترونية، تبسيط المساطر، وتوسيع استعمال المنصات الرقمية الرسمية، وضرورة تأهيل الشباب وتوفير فرص فعلية لممارستهم أدوارهم.
كما تم التطرق للحق في الحصول على المعلومة كشرط أساسي للحكامة الجيدة ومكافحة الفساد، وذلك من خلال قراءة مقتضيات الدستور، وفي المعايير والممارسات الدولية وكذلك في القانون 31.13، مع إبراز التحديات العملية مثل ضعف ثقافة المعلومة والبيروقراطية الإدارية. وشهدت نفس الجلسة مناقشة دور الإعلام باعتباره أداة محورية في تمكين المواطنين من المعلومة وفي مراقبة السياسات العمومية، مع التأكيد على ضرورة استقلالية الصحافة ونزاهتها، وتطوير صحافة متخصصة في التحليل والتقييم، رغم التحديات المرتبطة بالتحولات الرقمية وضعف الموارد.
أما الجلسة الثانية فقد خصصت لعدد من التجارب الميدانية للمؤسسات المحلية والجهوية والمجتمع المدني. حيث تم عرض تجربة جماعة أيت ملول في الانفتاح على المواطنين من خلال نشر المعطيات المرتبطة بالدورات والميزانية والتقارير المالية بالمنصات الرسمية، إلى جانب اعتماد آليات مثل الميزانية التشاركية والاستشارات العمومية والهيئات الاستشارية، فضلاً عن رقمنة المساطر الإدارية. وفي نفس الإطار، قُدمت كل من تجربة المجلس الشبابي لجماعة تارودانت كآلية منصوص عليها في الدستور لتمكين الشباب من المشاركة في النقاش العمومي وصنع القرار، مع الإشارة إلى التحديات المتمثلة في ضعف الثقة ومحدودية الموارد، وتجربة هيئة الشباب والمستقبل بجهة سوس ماسة في إشراك الشباب في تدبير الشأن العام واعتبار ذلك شرطا لضمان فعالية التدبير المحلي وجودة الخدمات العمومية من خلال دمج مقترحات الشباب في صنع القرار. واختتمت الجلسة بتقديم مشروع “مختبر المساءلة” لجمعية شباب تمدولت، الذي تم الاعتماد في تنفيذه على منهجية علمية تضمنت اختيار الباحثين وتكوينهم، وتنفيذ بحوث ميدانية، وإعداد تقارير تقييمية خلصت إلى أن المشاركة الفعلية تتطلب استعداداً مؤسساتياً حقيقياً، ووعياً مجتمعيا، وآليات واضحة للشفافية والمساءلة.
وأكد المتدخلون خلال النقاش الذي تلا أشغال الجلستين أن تعزيز النزاهة والشفافية لا يمكن أن يتحقق فقط عبر الأطر القانونية والمؤسساتية، بل يحتاج إلى نشر ثقافة المواطنة منذ مراحل التنشئة الاجتماعية، وتمكين الشباب عبر التكوين والدعم المؤسسي، وتوفير فضاءات وآليات تتيح لهم ممارسة أدوارهم بفعالية. وتمت الإشارة، في السياق ذاته، إلى أن الإعلام يلعب دوراً محورياً في نشر المعلومة ومراقبة السياسات العمومية، وأن تطوير صحافة استقصائية متخصصة يعد عنصراً أساسياً في مواجهة الفساد. كما أبرز النقاش أهمية تجارب المجالس الشبابية والهيئات الموازية والمبادرات المدنية باعتبارها جسوراً بين المؤسسات والمجتمع، مع ضرورة التمييز بين الاستعداد للمشاركة والممارسة الفعلية، وتوفير ضمانات وآليات عملية تجعل المشاركة مؤثرة. وأجمع المتدخلون على أن الحكامة الجيدة ومكافحة الفساد تتطلب توازناً بين جهود الدولة، والمجتمع المدني، والشباب، والإعلام، من أجل ترسيخ الثقة، وتحويل المشاركة إلى ممارسة مؤسساتية مستدامة، تسهم في بناء تنمية شاملة وعادلة.