الرئيسيةقلم حرمن ثورة الملك والشعب إلى ثورة الرقمنة والحكامة: الدولة تفعل الدستور وتربط المسؤولية بالمحاسبة

من ثورة الملك والشعب إلى ثورة الرقمنة والحكامة: الدولة تفعل الدستور وتربط المسؤولية بالمحاسبة

سلام سيدي محمد
سلام سيدي محمد

يعيش المغرب اليوم دينامية إصلاحية متجددة يمكن وصفها بأنها امتداد لروح ثورة الملك والشعب، ولكن في سياق مختلف قوامه تفعيل الدستور وترسيخ الحكامة والرقمنة. فبعد أن حرّر الوطن أرضه من الحماية الأجنبية، يسير الآن نحو تحرير الإدارة من الفساد والجمود، في إطار مسار مؤسساتي قائم على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة كما نص عليه دستور 2011، وجسّدته الخطب الملكية المتواترة.

لقد شرعت الدولة، خلال السنوات الأخيرة، في محاكمة عدد من المسؤولين المحليين والجهويين والبرلمانيين المتورطين في اختلالات مالية أو تدبيرية، في خطوة غير مسبوقة تكرّس العدالة الدستورية وتعزز ثقة المواطن في المؤسسات.
وفي خضم هذه المرحلة، برز ما يُعرف بـ جيل Z212، وهو جيل وطني رقمي نشأ خارج التنظيمات السياسية التقليدية، متأثر بثقافة الشفافية والرقمنة، ومعبر عن وعي جديد يطالب بتفعيل الدستور وتطبيق القوانين دون استثناء. وقد تفاعلت الدولة مع هذا الحراك الاجتماعي بقدر من الإنصات والمسؤولية، معتبرة أن التعبير السلمي جزء من دينامية الإصلاح لا تهديد له.

غير أن هذا المسار لم يخلُ من مقاومة سياسية حاولت إبطاء وتيرة الإصلاح عبر سحب أو تأجيل مشاريع قوانين مهمة، مثل قانون الإثراء غير المشروع والضريبة على الثروة، بذريعة “مزيد من الدراسة”، إلى جانب طرح مشروع قانون يجرّم الحديث عن تزوير الانتخابات، ما أثار تخوفات من عودة بعض النزعات المحافظة التي تتعارض مع روح دستور 2011.
وفي السياق ذاته، أعادت قضية “الورق في الدقيق” النقاش حول الفرق بين الحصانة البرلمانية كحق دستوري في التعبير وبين استعمالها كوسيلة لتضليل الرأي العام، خصوصًا بعد اجتماع برلمانيين للدفاع عن تصريحات مثيرة للجدل تحت غطاء الحصانة، متجاهلين أن البرلمان مؤسسة لبناء الوطن لا لحماية الفساد.

في المقابل، تُواصل الدولة نهجها الإصلاحي بثبات من خلال توسيع الرقمنة، وتقوية أجهزة الرقابة، مثل المجلس الأعلى للحسابات والنيابة العامة والمفتشيات العامة، لتصبح أدوات فعّالة في تتبع المال العام ومكافحة تضارب المصالح.
إنها ثورة رقمية هادئة تُعيد الثقة في مؤسسات الدولة، وتجعل المحاسبة ممارسة مؤسسية دائمة لا ظرفية.

لقد أثبتت التجربة أن جيل Z212 لا يعارض الدولة، بل يطالبها بالمزيد من تفعيل القانون. هو جيل وطني يسائل، لكنه لا يهدد؛ يراقب، لكنه لا يعبث. وربما في هذا الوعي الجديد فرصة تاريخية لإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، في وقت تشهد فيه نسب المشاركة السياسية والنقابية تدنيًا مقلقًا.
إن التحدي اليوم هو تعميم الإصلاح ليشمل كل القطاعات، وتفعيل القوانين المؤجلة حتى لا يبقى الدستور نصًا نُباهي به العالم دون تطبيق فعلي في الميدان.

تاريخيًا، استطاع المغرب أن ينتصر على الحماية الأجنبية بثورة ملك وشعب، وهو اليوم بصدد ثورة مؤسسات ورقمنة وحكامة تستهدف تحرير الإدارة والعقل العام من الفساد والريع. فالتاريخ — كما يُقال — يعيد نفسه بأساليب جديدة، وما بين الأمس واليوم تظل القيادة الملكية، والدستور، والخطب الملكية هي البوصلة التي تهدي الوطن في مسار الإصلاح.

إن ما يميز المغرب عن غيره هو قدرته على الإصلاح من الداخل، دون قطيعة أو فوضى، مستندًا إلى ترسانة قانونية راسخة، ومؤسسات رقابية متطورة، ورؤية ملكية واضحة تعتبر أن الشفافية والمحاسبة ليستا تهديدًا للاستقرار، بل ضمانة له.
وهكذا، فإن ثورة الرقمنة والحكامة ليست سوى الوجه الجديد لثورة الملك والشعب، حيث يتحول النضال من تحرير الأرض إلى تحرير المؤسسات، ومن مواجهة المستعمر الخارجي إلى مقاومة الفساد الداخلي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *