
كان بودي أن أحضر لقاء الأستاذ نور الدين أفاية، ليلة الجمعة 07 نونبر، بمؤسسة الفقيه التطواني، غير أنني اخترت في نفس اليوم، مركز إكليل، في لقاء بطعم آخر، مع الأستاذ موليم لعروسي. لأجد نفسي يوم 10 نونبر 2025، من أوائل الملتحقين بقاعة الفن السابع، وموعد انطلاق النشاط (10:30) لم يحن بعد.
غير بعيد عن مرأى البصر، وضعت جلسة بمائدة وأريكتين، من الحجم الكبير، بدت صغيرة في مقدمة الشاشة الكبرى. سلط على الخلفية ملصق رقمي ضخم، يعرف بالنشاط. نقرأ على يمينه، الجهة المنظمة للنشاط؛ “مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف” وإلى أعلى يساره، الراية المغربية تتوسط المتحاورين: الأستاذ محمد نور الدين أفاية، الحظي بتكريم المهرجان، ويحاوره المخرج والسيناريست محمد مفتكر.
من هنا كانت البداية
في تقديمه، توقف منشط الحوار، عند بداية علاقته بالسينما. وهو إذاك طالب، لا يميز بين تحليل الرواية في مدرج بالكلية وبين قراءة فلم، وقع بالصدفة، في سوق البالي (الجوطية) على كتاب “الخطاب السينمائي بين الكتابة والتأويل” الصادر 1984، لنور الدين أفاية. فيقع في شباك الشغف بالسينما. فمن أين للكاتب بهذه القدرة على الكتابة السينمائية، في سن مبكرة؟ من هنا كانت بداية الحوار.
ولأن الذكريات تتوارد، استحضر الكاتب، في جوابه قصة أولى مغامرة ساقته للكتابة عن أول فلام. مدفوعا بعشقه للسينما، برمج مشاهدة فلم صحبة صديقة، سرعان ما غيرت رأيها. وتعويضا عن الغياب، دبج عرضا عن الفلم، من موقعه كمشاهد مجروح. هكذا “تحولت قصة حب إلى كتاب” موضوع السؤال. كان الحدث، مجرد بداية لمسار غني بالمحطات، من أهمها “محطتان حاسمتان في تكويني”؛ التخصص الجامعي في الفلسفة وما يستوجب من اهتمام بالشأن الثقافي، إلى جانب ولع بالسينما، رسخته في عقله ووجدانه، الجامعة المغربية للأندية السينمائية، في سن مبكرة باعتبارها “مشتلا حقيقيا للتكوين وحاضنة للصداقة” في أسمى مقاصدها. في هذه المؤسسة التي كانت تضم آلاف المنخرطين، “تعلمت، كما يقول، كيف أبصر وأخزن ما سأكتب”. فضل مؤسسة لا تليق بوضعها اليوم وقد صارت نسيا منسيا، لا تذكر إلا للذكرى في هكذا مناسبات.
قراءة في ربرتوار عاشق للسينما
ينبغي الإشارة منذ البداية، إلى تبرئ المحاور من الكتابة عن الفلم بنفس دافع المتخصص في تقنيات السينما. بل “إنني، كما يصرح صاحب الربرتوار، أنطلق مما يحركني للكتابة [أي] الفلم/ الحدث”. لذلك شكل فلم “ابن السبيل” للمخرج محمد عبد الرحمن التازي، أول محفز على الكتابة. ومركز الجذب فيه؛ مفارقة بين المجاز والمباشر في معنى السفر.
بيد أن قراءة نور الدين أفاية لأفلام المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي، وخاصة فلم “رسائل من زمن الحرب” تبقى ذات دلالة خاصة، تتمثل في طرحه الشمولي لقضية التحرر، تجنبا للسقوط في نموذج ثورات فشلت في صناعة الإنسان المتحرر، في بلدان عربية قامت ثوراتها على الانقلابات العسكرية) نموذج مصر، سوريا والعراق). أو تلك التي حررت الأرض دون أن تهتم بتحرير الإنسان (نموذج الجزائر).
لقد كان في إمكان فلم ميشيل خليفي، أن يحصل على الرتبة 10، من بين أحسن الأفلام عالميا، لولا تبنيه للنظام الأبيسي؛ بما يعنيه من نظام تسلطي عابر للمؤسسات والأفراد في المجتمع.
إن من نعم الحداثة على مغرب الستينيات التمتع بالحرية والانفتاح. حرية انعكست على مختلف المجالات الثقافية؛ من أغنية ومسرح وقصة قصيرة وتشكيل وسينما، ساهمت فيها الصحافة المناضلة بقدر كبير من الوعي والإشعاع. مما منح زخما كبيرا للمدرسة والجامعة. في هذه الظروف ستبدع أفلاما رائدة، أسست للسينما المغربية. ولو أن بعضها طاله النسيان كشريط “الكابوس” للمخرج تاشفين. ويبقي فلم “وشمة” لمخرجه حميد بناني (1970) لا زال شاهدا، فنيا وفكريا، على تشخيص أبوية المجتمع المغربي، منذ أن انفجرت أحداث 1965. ليبدأ العد العكسي، ويدخل المغرب في نظام يمنع المواطن المفكر من التعبير.
وعن سؤال المنطلق في كتابة الفلم؛ هل ينطلق المخرج من تصوره أم بما يفرضه عليه البناء الدرامي؟ يستدعي المستجوب مثال الأبيسية في المجتمع المغربي، ليؤكد على، أن أهم دور تقوم به السينما يتمثل في فضح كل أشكال السلطة، لما للصورة من قدرة على تحطيم الأبوية، إذا وجدت خلف الكاميرا عين راصدة للظاهرة. مستدلا بمجموعة من الأفلام المغربية التي، رغم ظروف المنع، سجلت حضورها القوي، خاصة في قضايا المرأة والتحرر، منها: “حب في الدار البيضاء” و”نساء ونساء” و”باديس”. أفلام أنتجها بروح نضالية رجال، عروا فيها عن ضعف الرجل الداخلي، في مقابل ما يبديه من مظاهر القوة.
كان الحوار مع الأستاذ نور أفاية شيقا، شد إليه اهتمام الجمهور الذي غصت به قاعة الفن السابع، بالنظر لقوة الحجة لديه، وسعة اطلاعه ونبوغه في مجال الصورة التي غزت العقول واستولت على المدارات.
لعل نقطة الضعف الوحيدة في هذا الملتقى الصباحي الباذخ حول السينما، يمكن تشخيصها في ضيق الوقت الذي لم يدبر تدبيرا جيدا، منذ الإخلال بموعد انطلاق اللقاء، إلى إطناب الطرف المحاور في صياغة السؤال. تدبير أدى ثمنه من أقصوا من لائحة التدخلات، وكنت واحدا من هؤلاء، يختلج في داخلي سؤال: ما نسبة السينمائيين المفكرين ممن ينشغلون بالقضايا الكبرى للمجتمع؟ وما هو مسلك توسيع قاعدة هذا الصنف ليلتزم برسالة التنوير؟ قبل حصر لائحة المتدخلين في سؤال مفاده: ما الفرق بين الكتابة عن فلم، وبين مشاهدته؟
تتعدد المشاهدات في السينما: فهي، من منظور الأستاذ أفاية، إما مشاهدة من أجل التسلية، أو الثقافة، أو القراءة، بمعنى التأويل. وضمن هذا الصنف الأخير، تندرج الكتابة المخصوصة بالمشاهد المتفاعل والمعبأ نفسيا وعقليا، وتعتبر سينما المؤلف توليفة من هذه الأفلام التي لم تنل حقها في التسويق.
ولعله سائر نحو الاندثار، جراء ما تمارسه سينما الإثارة من تضليل في توجيه المشاهد العادي. ولنأخذ على سبيل المثال فلم “تيتانيك”، بتركيزه على قصة حب، فيما أزاح من اهتمام المشاهد غرق 1500 من أطفال ونساء وشيوخ، ليغادر الناس قاعة العرض وهم يتمنون، لو نجا البطل “جاك” وتزوج “روز”، حبيبته في سيناريو الفلم. هكذا نجح الفلم في تحويل اهتمام المشاهد إلى الشخص، بدل القضية/ “الإنسان”.
التوصية، جاءت بمثابة دعوة للسينمائيين المغاربة، عبر زملائهم الحاضرين بأن ينتبهوا لما يعتور تقنية تأطير الصورة Cadrage، لحظة تصوير المشهد في الفلم.
محمدموسي

