لحسن أيت الفقيه
يرادف فصل الشتاء بالمناطق الجبلية الحصار والانعزال عن العالم. وإذا استنطقنا التاريخ نلفى أن القبائل التي أريد لها أن تستوطن الجبل، إما طوعا أو كرها، مدعوة لتكتسب ثقافة الحصار وتقتنع بثقافة الانغلاق وتجعلها ركنا أساسيا في نسقها الثقافي الذي يتجلى في مظاهر متعددة كأزياء النساء، والمعمار، وفي ثقافة الدفن، وثقافة الخوف، وفي الطقوس الاحتفالية ذات الصلة بالخصوبة أو ذات الصلة بالجنائز كالمآتم على سبيل المثال. ومن إيجابيات الانغلاق الحفاظ على الأنساق الثقافية ذات مرجعيات قديمة، مما يمكّن من الاستفادة من الرصيد القيمي وتوظيفه في التنمية المجالية. ويمكن توظيف الأنساق الثقافية التي يدمرها وقع الانفتاح، من بعدُ، في كشف أزمة العدالة المجالية.
المجتمعات الجبلية مغلقة ثقافيا، في الغالب، وبالتالي، لم تعد معاناة تضرس المجال الوظيفي وقساوة الطقس وتحمل ضنك الحياة مؤثرة أهوالها على حياة الإنسان، لأن هذه الجماعات تعودت على تلك القساوة وتحسبها أهون من قساوة السلطة بالمراكز الحضرية القديمة، فاس، ومكناس، ومراكش، وسجلماسة، السلطة المفوضة لقواد المخزن «جمع قائد»، في بلاد المخزن حتى عشية دخول المستعمر الفرنسي. وبعد ذلك نشأت هذه السلطة تمتد حتى عمت ما يسمى التهدئة التي عمت كل المغرب، وبرزت سلطة القواد لترسم خريطة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالجبال المغربية.
ظل السكان يدبرون أمرهم بأيديهم وفق العرف في المجال الاجتماعي، ووفق التقليد والتعود في المجال الشخصي، يواجهون البرد والثلج والحصار، فتراهم يستعدون لمواجهة عنف الطبيعة ابتداء من الاعتدال الخرفي الذي يوافق 10 من شهر شتنبر بالتقويم الجولياني، أي: التقويم الفلاحي بمفهوم سكان البوادي المغربية، فيشترون مدخرات الحبوب والشحوم، ويجمعون حطب التدفئة. ولأن ثلة منهم أنصاف الرحل، فهم ينزلون بخيامهم إلى السفوح المشمسة لقضاء فصل الشتاء، كالانكسار الأطلسي الجنوبي وهوامش الواحات، وبساط الحمادات بالنسبة لسكان جبال الأطلس الكبير الشرقي. ويعد الترحال الموسمي وجها من أوجه المقاومة لدى سكان الجبال.
ليس هناك ما يقلق راحة سكان الجبال إذ هم على أتم الاستعداد لمواجهة الطبيعة. وليس هناك ما يجعلهم فرحين مستبشرين بنعمة الثلج لأنهم لا يستفيدون كثيرا من مياهها. وكلنا يعرف أن الأودية العميقة التي تنزل من الجبال لا تنفع الحرث بالجبل لأنها من نصيب السهول، سهل تادلة وعبدة وسايس والغرب وواحات الجنوب الشرقي المغربي. ولا تكمن نعمة الثلوج إلا في خصوبة المراعي بالمواضع الجبلية التي لم تتأثر كثيرا بالحرائق واجثثاث الغابات وتدهور التربة.
وبعد فترة من الانغلاق نشأت رياح التحولات تهب على الجبال المغربية، بعد أن شهدت فصولا من المقاومة بالريف والأطلس المتوسط والأطلس الكبير والأطلس الصغير حتى غُلبت القبائل في سنة 1936 وركنت إلى أوامر المستعمر، وتأسست بالجبال القيادات التقليدية العشائرية، وانتهى بها عصر «السيبا»، ودخلت بلاد المخزن تحت الحماية الفرنسية، ورغم ذلك، تمتعت قليلا بإعمال العرف، والحفاظ على نسق القيم والتعود وكل ما تقتضيه التقاليد الشفاهية. وما عدا ذلك لم تستفد الجبال المغربية من أي شيء. وظلت الجبال، منذ فجر الاستقلال إلى عشية يومه، تركن إلى هوامشها، تحت وقع ثقافة الخوف، فكانت مسودة، وما حصل أن انتزاعت السيادة أملا في ضمان الاستقلالية في تدبير الثروات والدفاع عن الهوية الثقافية. وإذا استثنينا أزيلال ليس هناك أي عاصمة إقليمية ذات شأن بجبال الأطلس الكبير، مثلا.
وبصدد الحديث عن جبال الأطلس الكبير الشرقي لم يحصل الاعتراف بها مجالا إداريا متجانسا، للآن. وحسبنا أنها اكتشفت لأول مرة لتشكل إشكالا واجه مُعِدّي تقرير الجهوية المتقدمة، فكان الرأي اقتراح جزء منها ليلتحق بتافيلالت (الريش وكرامة) لتحقيق عودة القديم إلى قدمه، والجزء الآخر بمنطقة أزيلال، واستقر الجزء الثالث في خريطة إقليم فيجيج الإدارية، الذي تعذر إلحاقه، هو الآخر، بتافيلالت. وبعد أن عمق معدو الخريطة الانتخابية الرأي وتأملوا في الوضع غلب الرأي المصلحي الشخصي فكان إلحاق إقليم ميدلت بجهة درعة تافيلالت، فانتهت أسطورة الاكتشاف واستقر الطمس على حاله. ولم يحصل تمتيع جبال الأطلس الكبير الشرقي بأي هوية ثقافية أو مجالية رغم كونها تحتضن قبور جل القبائل المغربية، بني مطير، وكروان، وأيت يوسي، والدخيسة، وبني أحسن، وبني وارين، بل إن مدافن التومولي التلية تزين البساط هنا وهناك. لم يحصل الاعتراف بجبال الأطلس الكبير الشرقي رغم احتضانها معتقلين سريين سلفا تازمامارت وكرامة، ورغم احتضانها مواضع أحداث انجر عنها معاقبتها جماعيا في سنوات الرصاص، فتخلفت التنمية. وباختصار شديد فرغم احتضان بعض المناطق الجبلية عواصم إقليمية، قياسا على المناطق الأخرى، أزيلال، وإفران، والحسيمة، وشفشاون، وصفرو، فإننا لا نلمس الأطلس الكبير الأوسط، ولا الأطلس الكبير الغربي، ولا الريف، ولا الأطلس المتوسط الهضبي، ولا الأطلس الصغير، فالسهول والهضاب تلتهم الجبال الشامخة وتلك مفارقة وجب الوقوف عندها، إن أريد الحديث عن العدالة المجالية.
استقر الطمس على حالة بعد أن عمقته التحولات التي فرضها بعض الانفتاح على الجبل أو توفق في اكتشاف الجبال لتبرز عوراتها على هذه الحال، فكان وجه الجبال ذا قسمات معبر عنها بالنقط أسفله:
– السياحة الثقافية: تتوافر الجبال على إمكانيات هائلة للنهوض بالسياحة الثقافية لاكتسابها غنى في التراث الثقافي. لكن اقتصاد التراث الثقافي لايزال، للأسف، غير مفكر فيه.
– السياحة الترفيهية: لئن كانت الجبال المغربية تتوافر على إمكانيات الترفيه الهائلة لجمال مناظرها يوم هطول الثلوج، فإن موسم الثلوج يجعل الجبال تعيش مأتما ومأساة. وعلى سبيل المثال لم تتوفق المديرية الإقليمية للتجهيز في فتح الطريق الإقليمية رقم 7319 بين أنفكو وإملشيل حتى مضت ثلاثة أيام من العزلة، ابتداء من يوم 25 من شهر شتنبر من العام 2020. ولحسن الحظ توفقت السلطات في إنقاذ ثلة من الأساتذة عالقين بجبال تادغمامت، في علو 2500 متر، مساء يوم الجمعة 27 من شهر نونبر.
– البنية التحتية الطرقية: سلف لقبيلة أيت عبدي بإملشيل أن نظمت مسيرة احتجاحية شارك فيها 60 شخصا، قبل أن يستقبلهم عامل إقليم ميدلت مساء يوم السبت 05 من شهر مارس من العام 2016، وجرى إقناعهم بوعود لم يتحقق منها أي شيء، كنحو إرسال جرار كاسح للثلوج لفتح الطريق الفلاحية الرابطة بين تامزاغرت وبوزمو، وهي الطريق اللائقة لنقل الأعلاف إلى أيت عبدي، وجرار آخر حافر وجارف (D8) يمد الطريق إلى أنركي. ومن ذلك أيضا إهمال إحداث طريق توافق مسلك الراجلين والدواب الرابط بين مركز إملشيل وتامزاغرت عبر ممر تيزي ن وانو، مرورا بجبل زايموزن، ووصولا إلى تايدرت وتامزاغرت.
ـ إذا نبشنا في الذاكرة، فقد حدث في سنة 2007 أن أهلكت الثلوج والأمطار الطوفانية الحرث، وأضرت بالنسل. فالخسارة، لم تقتصر فقط على انجراف التربة وتعرية السفوح الجبلية، وردم المقعرات بالأوحال، وحصار المدارس ونسفها بل امتدت لتعري أيضا أزمة العدالة المجالية، وسياسة الميز الجغرافي المعتمدة، وقتها، بإقليم الرشيدية منذ نصف قرن من الزمان. وفي الأسبوع الأول من شهر يناير من العام 2007 قتل البرد 31 طفلا بمنطقة أنفكو التابعة لإقليم خنيفرة، وقتها، قبل إحداث إقليم ميدلت. وفي يوم 18 أبريل من العام ذاته، نسفت الرياح أربع حجرات دراسية بالمدرسة المركز لمجموعة مدارس الأمير مولاي عبد الله بإملشيل.
– في بحر شهر يناير من سنة 2012، اشتد البرد بإقليم ميدلت واستمر نزول الصقيع، فكانت المنطقة في حاجة إلى بعض المساعدات، وبالفعل استفادت بعض المواقع العمرانية: أقانوانين، وإيمي نتاقات نايت علي السو، وأيت عبدي، وأيت عمرو، من بعض المساعدات، وهي في أمس الحاجة إليها لمواجهة قساوة الطبيعة، بعض الوقت. ولقد وزعت المساعدات بشكل انتقائي، ولم يستفد التجمع القروي تلمي من تلك المساعدات، علما أن تلمي لا تبعد عن أيت عمرو بأنفكو إلا بسبع كيلومترات فقط. وهي أكثر برودة وثلجا من المناطق المستفيدة. ومن سوء حظها أنها تمتد في منطقة جرداء لا غابة فيها ولا نبات. ولقد استثنيت المنطقة بناء على المقاربة الأمنية، تقارير الاستعلامات، ليس إلا.
– افتقار المناطق الجبلية إلى مقر ثابت مأرب لآليات كاسحة للثلوج مما يجعل سكان المناطق يستنجدون كلما هطلت الثلوج.
ومحصل القول، إنه لغياب عدالة مجالية، سيظل الجبل فضاء لإقامة مأتم جماعي مناسباتي، يحل في فصل الشتاء من سنة. وقبل ذلك، فقد كان الجبل منذ استقلال المغرب فضاء لتسييح البؤس كتنظيم ما يسمى موسم الخطوبة بإملشيل، عقابا للجبل الذي بات يحتضن مواضع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وأريد للجبل اليوم أن يظل ملاذا للجمعيات النسائية التي ترصد زواج القاصرات سؤلا في تلميع وجهها الحقوقي. ولقد حان الوقت للترافع على العدالة المجالية أملا في طي ملف الحصار في الفصل البارد وذلك بشق الطرق وتوسيعها وتعبيدها وإقامة بنية سياحية لائقة، وجعل الجبال تداني السهول في الإمكانيات التنموية.