محماد أولحسن
- في سياق التجربة
عملت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، في سياق الإصلاح الجديد الذي تؤطره الرؤية الإستراتيجية 15– 30 والقانون الإطار رقم 51.17 على اعتماد هيكلة جديدة لمنظومة التربية والتكوين، تقوم على إلحاق التكوين المهني بالتعليم المدرسي ودمجهما في تنظيم بيداغوجي منسجم ومتناغم. ولهذا سعت الوزارة إلى ربط منظومة التربية الوطنية بمنظومة التكوين المهني وخلق ممرات وجسور بين التعليم العام والتكوين المهني قصد توسيع العرض التكويني. ومن أجل تقوية نظام التوجيه التربوي والمهني أرست المسارات المهنية بالتعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي إلى جانب أسلاك التكوين المهني. وفي هذا الصدد نصت أيضا الإستراتيجية الوطنية للتكوين المهني 2021 في محورها الاستراتيجي الخامس، على وضع مجموعة من الآليات من ضمنها إحداث مسارات مهنية بالثانوي الإعدادي وإرساء البكالوريا المهنية، في إطار التوجيه نحو تثمين المسار المهني وتحقيق اندماج أفضل بين التعليم العام والتكوين المهني.
ولضمان التنزيل الأمثل لهذه الإجراءات، حرصت الوزارة الوصية على القطاعين، على تأطير ذلك بإصدار دورية مشتركة تحث رقم 16/33 بتاريخ 31 مارس2016، سعت من خلالها إلى تحديد شروط وكيفية ولوج هذه المسارات المهنية، كما نصت على كون اللجان الجهوية للتوجيه المهني فضاء مؤسساتيا لتفعيل هذه التدابير واتخاذ القرارات على الصعيد الجهوي. غير أن هذه التجربة، وبالرغم من أهميتها وفلسفتها الرامية إلى خلق آفاق واعدة للاندماج المهني في سوق الشغل، تعرف تعثرا كبيرا ينذر بتوقفها وعدم تحقيق غاياتها الاستراتيجية، بفعل غياب التخطيط وكذا الاكراهات المؤسساتية التي تكبل الجهات الوصية جهويا في تدبير التوجيه المتعلق بالمسارات والمسالك المهنية في علاقته بتفعيل ورش الجهوية المتقدمة كما تنص على ذلك الدورية المشتركة.
- المسارات المهنية ومسالك البكالوريا المهنية والمصير المجهول
لقد تم الشروع في أجرأة هذه المسارات بحماسة كبيرة ابتداء من الموسم الدراسي والتكويني 2014/2015. وتحققت نتائج مهمة بفضل التعبئة الكبيرة التي واكبت الإرساء، حيث استقطبت هذه المسارات أعدادا مهمة من المتعلمين والمتعلمات، وإن اختلفت المؤشرات حسب الجهات، و بذلت فيما بعد الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين والمديريات الجهوية للتكوين المهني مجهودات كبيرة من أجل استمرار هذه التجربة النوعية ، غير أن هذه الحماسة يبدو أنها تراخت مع توالي المواسم الدراسية والتكوينية، وقل معها إقبال المتعلمين والمتعلمات على هذه المسارات الجديدة، وتراجعت المؤشرات المسجلة بشكل مقلق، بحيث لم يسجل عدد التلاميذ(ت) المسجلين بالمسار المهني بالإعدادي إلا ارتفاعا طفيفا بنسب لم تتعدى في بعض الجهات 1% من مجموع التلاميذ بنفس السلك، ما بين الموسم التربوي والتكويني 2017-2018 وموسم 2019-2020. وفي نفس الاتجاه سجل عدد التلاميذ(ت) في مسالك البكالوريا المهنية نسب تراجع سلبية في العديد من الجهات بحيث لم يتجاوز عدد المسجلين(ت) في المسالك المهنية 2% من مجموع تلاميذ الثانوي التأهيلي في نفس الفترتين التكوينيتين.
- اللجان الجهوية المشتركة للتوجيه المهني والأدوار المحدودة
لطالما شكلت اللجان الجهوية المشتركة للتوجيه المهني على الصعيد الجهوي، حسب الدورية المشتركة رقم 16/33، الفضاء المؤسساتي الوحيد الذي يجمع مختلف المتدخلين، لتتبع وضعية تقدم إرساء المسارات والمسالك المهنية. وبالتالي فقد أريد لهذه اللجنة أن تكون فضاءات للتتبع وللتقييم والتداول والتخطيط واقتراح حلول لتجاوز الوضعية الهشة لهذه المسارات. غير أنه، من خلال مواكبة أشغال هذه اللجان في مختلف الأكاديميات، يلاحظ أن اجتماعاتها أصبحت فقط لقاءات لتقديم والتباحث في الصورة المقلقة والمتراجعة لوضعية تقدم المسارات المهنية. حيث يتم تكرار نفس التقييم، كل موسم تكويني مع رصد نفس مظاهر الخلل والإكراهات واجترار نفس التوصيات والاقتراحات التي لا تجد أغلبها الطريق نحو التنفيذ، مع حرص كل طرف معني على إلقاء المسؤولية على الطرف الآخر والدفاع عن القطاع الذي يمثله. كما يتم عرض ”برامج مشتركة” لتطوير التوجيه نحو المسارات المهنية، وهي فقط نوايا لا تكون لها انعكاسات ايجابية على الميدان لصعوبة الالتزام بها في الغالب من طرف الفاعلين الأساسيين في المجال، بفعل غياب آليات الحكامة للتنسيق والتتبع المشترك. ليبقى المآل الذي تسير فيه هذه المسارات المهنية يسائل جميع الفاعلين والمتدخلين وطنيا وجهويا وإقليميا. فالمؤشرات الخاصة بالتوجيه نحو المسارات ومسالك البكالوريا المهنية في تراجع كبير، والاستقطاب إليها ضعيف وغير مغر للتلاميذ والآباء موسم بعد آخر، مما نتج عنه وضع يهدد باندثار بعض هذه المسارات المهنية في العديد من المؤسسات المحتضنة. الشيء الذي يعكس مظهرا آجر من مظاهر الهدر في المجهود البشري والمالي سنة بعد أخرى داخل منظومتنا التربوية، فأين يكمن الخلل وماهي مداخل الحلول إدن؟
- المسارات المهنية والبكالوريا المهنية ومداخل الإنقاذ
يكمن الخلل في الوضع الهش الذي تعيشه هذه المسارات ومسارات البكالوريا المهنية في الجانب المؤسساتي المرتبط بضعف الحكامة في التدبير والتواصل، وفي تفاوت مستوى التعبئة بين الفاعلين المؤسساتيين المعنيين، وأقصد هنا قطاعي التربية الوطنية والتكوين المهني. كما يكمن الخلل أيضا في المنهجية الممركزة المعتمدة التي تفرض الخرائط الخاصة بالمسارات والمسالك المهنية مركزيا لتصبح أمرا واقعا يتم تنزيله جهويا وإقليميا. وغياب مداخل تمكن اللجان الجهوية المشتركة للتوجيه المهني من آليات لتملك رؤية جهوية مشتركة ومنسجمة بين متدخلين متعددين، رؤية يمكن أن تقدم عرض تربوي وتكويني مهني قادر على الجدب والاستقطاب ويراعي خصوصيات ودينامية الجهات ويواكب اختيارات ومشاريع الفئات المستهدفة، رؤية تستفيد من الفرص التي يتيحها المحيط السوسيو-اقتصادي والنسيج المقاولاتي بالجهات.
وللخروج من هذه الوضعية المقلقة فإن الحل يكمن، في اعتقادي، من خلال مدخلين أساسيين، مدخل مركزي وآخر جهوي:
فعلى الصعيد المركزي، ومن أجل تنسيق وانسجام وتكامل والتقائية التدخلات بين قطاعي التربية وقطاع التكوين المهني يتحتم:
- اعتماد الحكامة في تدبير العلاقة بين قطاعي التربية والتكوين المهني بما يضمن الرؤية المشتركة وتوحيد وانسجام المساطر، لتحييد العديد من الاكراهات الإدارية والمسطرية التي تعيق الإرساء الناجع والفعال للمسارات والمسالك المهنية؛
- اعادة النظر في أدوار ومهام اللجان الجهوية المشتركة للتوجيه وإلحاق الجامعات بها لضمان تنسيق أكبر مع قطاع التعليم العالي؛
- تثمين الآفاق الدراسية العليا لحاملي الباكلوريا المهنية عبر توسيع اعتمادها في الولوج خاصة إلى المؤسسات ذات الاستقطاب المحدود للزيادة في الإقبال عليها؛
- إعادة النظر في مقتضيات الدورية المشتركة، وإصدار مذكرات أخرى تنظيمية تعزز التنسيق بين قطاعي التربية والتكوين والتعليم الجامعي على الصعيد الجهوي والإقليمي وتفعيل مأسسة آليات العمل المشترك الجهوي والمحلي.
- العمل على إشراك والانفتاح علىالقطاعات الحكومية الأخرى المكونة لإرساء مسارات مهنية جديدة مع بحث سبل تعبئة الشركاء الاقتصاديين والمهنيين بالجهات لإنجاح هذه المسارات واعتماد مسالك مهنية أخرى.
- اعتماد مساطر وآليات جديد للتوجيه نحو المسالك المهنية، تراعي الجانبية الشخصية والميولات المهنية للمتعلمين والمتعلمات، وعدم تحويل هذه المسارات إلى مسالك لاستقطاب المتعثرين وإدماج المستعطفين والمفصولين أحيانا.
أما على الصعيد الجهوي وبالرغم من أن الدورية المشتركة جاءت في سياق يعمل على تعزيز أدوار الجهات في تدبير التوجيه المهني في إطار تفعيل الجهوية المتقدمة، فإن المؤسسات الجهوية سواء المسؤولة، بشكل مباشر أو غير مباشر، على تنزيل المسارات المهنية يبقى دورها محدودا، في غياب منهجية تشاركية تعمل على بلورة رؤية مشتركة بين مختلف الفاعلين.
ومن هذا المنطلق فإن المدخل الجهوي يكمن في:
- اعتماد آلية التخطيط التصاعدي وذلك بتخويل اللجان الجهوية للتوجيه المهني، تحث سلطة مدراء الأكاديميات، القرار الذي يمكنها من الشروع في عملية التخطيط الاستراتيجي في هذا المجال عبر إطلاق دينامية تشاركية جهوية، تشرف على تنسيقها المراكز الجهوية للتوجيه المدرسي والمهني بهدف بلورة ”مخططات جهوية للتوجيه نحو المسارات والمسالك المهنية ” يشارك في بلورتها كل الفاعلين التربويين ومؤسسات التكوين المهني والمقاولات مع إشراك الجماعات الترابية والمجتمع المدني والتلاميذ والآباء ومؤسسات الدعم كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية ومنظمة اليونيسيف على سبيل المثال… لأن من شأن هذه المخططات الجهوية التشاركية، أن تمكن من بلورة رؤية جهوية قائمة على :
- تشخيص حقيقي للإمكانيات والفرص المتاحة بالجهة وبالتالي تحديد الأولويات في مجال التوجيه المهني؛
- تملك مخطط جهوي يقترح خرائط ذات جاذبية أقوى نحو المسارات المهنية بالإنتقال من منطق العرض إلى منطق الطلب من خلال تقديم عرض تربوي مهني ومسارات مهنية نابعة من حاجيات الفئات المستهدفة ويراعي خصوصيات الجهة وانتظارات الفاعلين الاقتصاديين؛
- بلورة برنامج عمل جهوي للتوجيه نحو المسارات والمسالك المهنية بأهداف استراتيجية ونتائج متوافق عليها وعمليات وأنشطة محددة وبمؤشرات قابلة للتحقق، مع توقع الاكراهات والاقتراحات لتجاوزها.
- هذه الدينامية الجديدة تقتضي إعادة النظر في مهام وأدوار ومكونات اللجان الجهوية المشتركة للتوجيه بما يمكنها من أدوار تقريرية وأخذ المبادرة، وبالتالي تولي الإشراف على بلورة وتنفيذ وتتبع وتقييم المخططات الجهوية للتوجيه نحو المسارات المهنية جهويا وإقليميا وتعبئة الشراكات.
- بلورة مخطط إعلامي جهوي مواكب للتحسيس وللتعبئة المجتمعية لإنجاح المسارات والمسالك المهنية وتصحيح التمثلات الخاطئة والتصورات النمطية السلبية حولها وتوضيح الآفاق المهنية والجامعية الممكنة لتحقيق جاذبية وإقبال أكثر من طرف الآباء والتلاميذ على هذه المسالك.
- ستمكن هذه المقاربة من الانفتاح على الشركاء والداعمين جهويا والاستفادة من فرص التمويل لتأهيل وتجهيز المؤسسات المحتضنة وخلق بيئة تربوية جذابة وحاضنة للمسارات والمسالك المهنية من خلال ثانويات نموذجية ”مهنية ” أو قريبة من مؤسسات التكوين المهني.
إن انقاد تجربة المسارات المهنية ومسالك البكالوريا المهنية، والحفاظ على المكتسبات في هذا المجال، رهين إذن بتحقيق الانسجام والاندماج العمودي والأفقي للقرار المؤسساتي وللتدابير والإجراءات الإدارية لقطاعي التربية الوطنية والتكوين المهني. وكذا التنسيق الأمثل مع قطاع التعليم العالي لتثمين الآفاق الدراسية لما بعد البكالوريا المهنية وتحسين الإقبال على المسالك المهنية. كما أن الحكامة في تدبير هذه المسارات جهويا يقتضي تمكين اللجان الجهوية المشتركة للتوجيه من القرار والدعم المؤسساتي والمادي لبلورة وتنفيذ وتتبع وتقييم المخططات الجهوية للتوجيه نحو المسارات المهنية. ثم مأسسة المقاربة التشاركية وتقوية دور الشركاء الاقتصاديين والمهنيين كفاعلين رئيسيين، إلى جانب الجماعات الترابية خاصة الجهات في مجال تحديد الحاجيات من المسارات والمسالك المهنية وإعداد الخرائط التوقعية ودعم تنزيل البرامج الجهوية في مجال التوجيه المهني.
المراجع المعتمدة:
- الرؤية الإستراتيجية للتربية والتكوين 2015-2030؛
- القانون الإطار رقم 17 – 51 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي؛
- الدورية المشتركة 16/33 بتاريخ 31 مارس2016 في شأن تنظيم التوجيه المهني.
الإستراتيجية الوطنية للتكوين المهني 2021 – وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني –قطاع التكوين المهني 2017؛
* مستشار في التوجيه التربوي