الرئيسيةالأمازيغيةتالوسي.. عندما يلتقي صليل “أوزلان” بأهازيج “إملاسن”

تالوسي.. عندما يلتقي صليل “أوزلان” بأهازيج “إملاسن”

مع بداية شهر أبريل، تبدأ الحرارة بالارتفاع تدريجيا هنا في جبال صاغرو، ما يدفع رحل هذه المناطق في مثل هذا الوقت من كل سنة إلى الشروع في مباشرة عملية جز صوف قطعانهم التي تستمر أحيانا حتى أواخر ماي استعدادا لصيف حارق لا تطيق الأغنام ولا الماعز حرارته وهي مكسوة بصوف كثيف.

يسمى جز الصوف في صاغرو كما في مناطق أخرى من المغرب “تالوسي”، وهي عملية تتم بشكل تعاوني بين الرحل وبدون مقابل، هي إذن تقليد ضارب في القدم توارثه الأبناء عن الآباء، إذ إن شيوخا طاعنين في السن يؤكدون أنهم ومنذ نعومة أظافرهم وهم يحضرون هذه العادة السنوية.

في هذا اليوم الربيعي استيقظ موحند إيكن أحد رحل صاغرو كما هي عادته باكرا، لكن هذه المرة ليس ليطلق سراح أغنامه نحو المرعى، بل لاستقبال حلاقين مهرة من نوع آخر ولإعداد آخر الترتيبات لعملية “تالوسي” التي تكتسي نوعا من القدسية عند الرحل، إنها أشبه بطقس ديني تعبدي، إذ لا يمكن أن تبدأ إلا بعد البسملة والتكبير وإطلاق العنان للحناجر لتصدح بأهازيج تدعو إلى الصلاة والسلام على رسول الله(ص).

يظهر هذا التعظيم كذلك في وجوب نزع الأحذية على كل من يرغب بولوج “ساحة الحلاقة”، ومرد ذلك حسب رحل صاغرو إلى كون الدخول إلى “تفركانت” أي الزريبة أثناء عملية الجز لا يختلف عن الدخول إلى المسجد.

بعد البسملة والتكبير وأشعار الصلاة والسلام على الرسول، لا تمر سوى دقائق قليلة على وصول الجزازين يتقدمهم عمي موحى الأكبرهم سنا والأكثرهم خبرة حتى يتعالى صليل المقاص(أوزلان) الشبيه بصوت قراقب فرقة كناوية مصحوبا بأناشيد تطلب من النساء بشكل مازح الإسراع في إعداد ما لذ وطاب من أكلات محلية ك”إبلقس” و “تيكليلت” وإلا تهاونوا في أداء مهامهم وتقاعسوا عن إتقان حلاقة القطيع.

لا يستغرق عمي موحى غير حوالي عشر دقائق حتى يطلق سراح النعجة وقد أصبحت ب “لوك جديد” بعدما تراكم على جسدها صوف كثيف لحول كامل، و ماهي إلا لحظات حتى ترى الصوف متراكما أكواما بين أقدام الحلاقين.

تتسم تالوسي بتنظيم دقيق ومحكم، حيث يتم تقسيم العمل إلى مجموعات؛ مجموعة الحلاقين المهرة ممن يطلق عليهم محليا اسم” إملاسن ومفرده أملاس” أو ” إجلاَّمن ومفرده أجلام”، والذين يشترط فيهم التوفر على مهارات عالية وخبرة طويلة اكتسبوها عن طريق الممارسة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بجز الأغنام غير المتاح لكل من هب ودب، نظرا لما يعتريه من صعوبة ومخاطر بسبب صوفها الكثيف الأشعث، على عكس شعر الماعز الناعم مما يسمح للمبتدئين بقصه بسهولة، وهو ما يشكل مجالا أوليا للتعلم قبل بلوغ نادي المحترفين المكون في الغالب من المتقدمين في السن.

لا يرتقي إذن أحدهم إلى مستوى عمي موحى وعمي سعيد وعمي حساين وغيرهم من الحلاقين المحترفين البارعين، إلا إذا اكتسب أبجديات الحرفة وأتقنها، والتي يأتي في مقدمتها التمكن من احترام مراحل العمل، إذ يتم البدء بالأرجل الخلفية من الجهة اليمنى وصولا إلى الرأس مع الحفاظ على الصوف كومة واحدة وعدم بعثرته، تماما كما ينزع الرجل جلبابه من على جسده دفعة واحدة وليس قطعا متناثرة، والأهم من ذلك عدم تعريض حياة “الزبون” للخطر والأذى، فالحلاق الماهر هو الذي ينجح في جعل النعجة أو العنزة طائعة خاضعة بمعاملتها برفق ما يمكنه من حلاقة أكبر عدد ممكن من الرؤوس في أقل وقت ممكن دون أن يلحق بها جرحا واحدا، ومن غير أن يترك عليها نتفا من الصوف هنا وهناك، إنما يجب أن تكون الحلاقة مستوية ومتوازنة، ويضاف إلى كل ذلك أن يكون حافظا للأناشيد المرافقة للعملية.

تتكون المجموعة الثانية من الشباب، ومهمتها سحب النعاج أو الماعز التي يأتي عليها الدور من القطيع وجلبها إلى الحلاق، ثم توثيق أرجلها بحبل صوفي حتى لا تتأذى قبل الشروع في عملية القص، وهي في نفس الوقت المجموعة المكلفة بجمع الصوف وتكويمه على شكل كرات ثم تعبئتها في أكياس معدة لهذا الغرض.

عندما يتعلق الأمر بجز الماعز، تضاف إلى المجموعتين السالفتي الذكر مجموعة ثالثة مهمتها إحكام السيطرة عليها بالإمسكاك بقرونها وهي بين يدي الحلاق وذلك لاستحالة توثيقها، نظرا لما تتميز به من الخفة وكثرة الحركة خاصة عند سماع قعقعة المقاص المرعبة، على عكس الأغنام التي تتصف بنوع من الرزانة والهدوء.

لا يشمل تقسيم العمل الرجال فقط، بل النساء أيضا، فاليوم حل الدور على عْبو ويطو للتوجه بالحمير لسقي الماء من أقرب بئر تبعد عن العزيب بحوالي كيلومتر، في حين ستتكلف الزهراء وعدجو وماما بإعداد الخبز والطعام المكون من “محمصة” بالسمن و”إبلقس” و”تيكليلت” وهي أجبان محلية معدة من حليب ولبن الماعز والأغنام مع كؤوس الشاي للفطور والكسكس وما يليه من اللحم المفور والمشوي للغذاء.

أياما قبل اليوم الموعود، يذاع خبر حلول “موسم تالوسي” عند أحدهم وخاصة لما يتعلق الأمر بكبار الرحل المعروفين في المنطقة ممن يملكون مئات الرؤوس، فيأتي الرحل المجاورون من كل صوب وحدب لحضور هذا الطقس السنوي إما بغرض المساعدة أو بهدف تمضية الوقت، وقد يتصادف ذلك مع قدوم غرباء من القرى المجاورة أو حتى من أبناء السبيل، إذ يعتقد الناس هنا أن كل من يحضر هذه المناسبة إنما جاء بدعوة من أرواح القطعان التي أحبت حضوره ورؤيته في “يوم عرسها”، لذلك فهو من المحظوظين المباركين.

في هذا اليوم الاستثنائي الذي يشبه يوم العيد عند الرحل، حتى الأطفال يستيفيقون باكرا مصرين على متابعة أطوار “تالوسي” من البداية حتى النهاية، فتراهم يتسلقون الأحجار المحيطة بالقطيع وكلهم حذر وانتباه أن لا تفوتهم “شاذة” ولا”فادة”، يراقبون بعيونهم الصغيرة حركات وسكنات الحلاقين والمقاص طوع أيديهم يضغطون عليها باحترافية عالية مخلفة وراءها أكواما من الصوف وكأنها آلات حصاد تنثر خلفها حزمات التبن، وكلما أحسوا بأنها ثلمت(لم تعد حادة)غطسوها في سطل ماء مخصص لذلك ثم شرعوا يشحذونها بمبرد يدوي قبل مواصلة العمل، كل ذلك والأطفال منتبهون يدونون بعقولهم كل التفاصيل وكأن أحدا ائتمنهم على هذا التراث ونمط العيش هذا الذي يصارع الانقراض وكلفهم بنقله إلى الأجيال المقبلة.

ليس كل القطيع تشمله عملية الجز، بل تستثنى من ذلك الحملان الصغيرة التي لا يكسو جلدها الكثير من الصوف ممن يقل عمرها عن عام، كما أن بعض الرحل لا يُخضعون قطعان الماعز للحلاقة السنوية لقلة كثافة صوفها، فيمتد أجل حلاقتها لسنتين على عكس الأغنام.

قد يعتقد البعض أن عملية الجز تتم فقط بهدف الحصول على قناطير الصوف الذي يستعمل لأغراض شخصية أو للبيع، إذ يبلغ ثمنه بين 8 و10 دراهم للكيلوغرام الواحد وتنتج منه النعجة الواحدة بين كيلوغرامين إلى ثلاثة، غير أن الهدف يقول عمي موحى ليس هو “جني الصوف” فحسب، بل لأن عملية الجز تفتح شهية القطيع على الأكل وتساعدها على النمو وزيادة حجمها بسرعة، فما أن يحلق شعرها حتى تصبح أكثر حيوية ونشاطا، في حين أن الإبقاء عليها غير مجزوزة يسبب لها الخمول والتعب بسبب صعوبة تحمل الحرارة، فتلجأ إلى ظل الأشجار والأجراف هربا من الحر بعد وقت قصير على خروجها من الزريبة، وهو ما يقلص من زمن الأكل.

بين الفينة والأخرى يتوقف الحلاقون عن الغناء ليخوضوا في مواضيع تتعلق بحياة الرحل؛ معاناتهم، آمالهم وآلامهم، أحوال السوق والجو؛ ”يوم أمس اتجه حمو وحساين نحو سوس بثلاث شاحنات”، يقول أحدهم معلقا على حياة الترحال القائم على الانتجاع بين الجبل والسهل، في رحلة الصيف والشتاء، قبل أن يردف؛ “لقد قيل لي كذلك إن سوق بومالن دادس عرف ارتفاعا كبيرا في الأسعار”، ليرد عليه الآخرون مازحين؛ ” لاشك أنك تقصد أسعار الخضر والفواكه، أما أسعار المواشي فالجفاف وكورونا نزلا بها إلى أدنى المستويات”… 

مصطفى ملو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

%d مدونون معجبون بهذه: