
قد يُعجب القراء بمثل هذه اليوميات النادرة من اسر مختلفة بالمناطق المهمشة والمنسية ، لجنود قضوا سنوات بالصحراء المغربية حتى تقاعدوا ولم يتم إنصافهم في معاشهم الذي لا يكاد يسد رمق العيش وهم في سن المرض، منهم المعطوب ومنهم المنهك جسديا ومنهم من ينتظر نحبه.
اختارنا هذه المرة ثلاثة جنود من اسرة ‘آيت جرو ‘ بقصر مزگبدة العامر بالريصاني من اصول امازيغية فيلالية بسيط عيشهم كباقي ساكنة الواحات، وكتب الله لهم رزقهم في الجندية لسد الكفاف بالدفاع عن الوحدة الترابية، تحت صوت المدافع والقنابل والألغام من أعداء الوطن الذين كانوا رابضين في الخنادق بالرغم منهم تحت وصايا الكابرانات الجزائرية.
القاسم المشترك بين الجنود الإخوة الثلاثة هو الدم الاسري الذي يسري في عروق النسب، والوطنية العالية الصادقة ،لا يقدمون ولا يستأخرون عنها شيئا ، ‘السربيس ‘ كما يسمونه مقدس، وحين ارتداء الزي العسكري تراهم على استعجال، يرتعشون استعدادا لشيء مجهول، وفي تخوم الصحراء في الصفوف الامامية بجوار الحزام الامني ،لا يعرف مداه الا من رآه ووقف بجانبه، يحكون انهم في وسط الدخان، وبين أصوات الانفجارات، يقف كل واحد منهم حائرًا بين نداء الواجب وصوت قلبه المشتاق للأهل. يحمل كل منهم سلاحه بيدٍ مرتجفة، لا خوفًا من الموت، بل خوفا من دخول العدو متسللا او مدججا بسلاح ، فترسم اعينهم صور أهلهم: ابتسامة أم واب، واذانهم التي لا تفارق المذياع انتظارا لخبر مفرح على ضوء المعلومات المغلوطة الكاذبة التي كانت تمررها اذاعة الجبهة اللعينة…وفي الخلاء يستمتعون بالخيال بضحكة اطفالهم، ورائحة بيوتهم التي يشتاقون إليها أكثر من أي شيء، وفي كل لحظة تمر هناك، يشعرون أن جزءًا منهم يضيع في غبار المعركة ولا يبالون في سبيل اعلاء راية الوطن. وحين يسكن الظلام الميدان كما يحكون، يهرب النوم عن الجفن فيسمعون صرخات لا يراها أحد، ويتذكرون رفاقًا سقطوا بجانبهم دون وداع حيث علمتهم الحرب أن النصر فخر ، والنصر جرح وسيُشفى بالانتصار.
الاخ الاكبر من الثلاثة يسمى ‘احماد جرو ‘ في سن 86 اطال الله في عمره ،دخل الجندية ،وهو لا يتعدى 18 سنة بطموح اكبر والوطنية العالية، شهد بها زملاؤه في الخدمة ،شارك في حرب الرمال بالصحراء الشرقية وتم عطبه بقنبلة أصابت شظاياها معظم جسده ورأسه ،و مازالت اثر الثقوب على جلده لحد الساعة ،وتم اعتقاله لاصاباته البليغة ،ومنح لرفيقه في الحرب.’ بزطامه’ اي حقيبة الجيب فيها اوراقه و20 درهم حسب ما حكى ،وقال ابلغ ابي بالريصاني ان حياتي ستنتهي قريبا واني مصاب، ولما وصلت الأمانة ذاع خبر ان ‘حماد جرو ‘ قد توفي رحمة الله عليه، وأُقيم العزاء ولبست زوجته ‘ الزهراء عمروش’ التي نناديها ‘هروش ‘ اطال الله في عمرها ويسر أمرها، اللباس الابيض، وانتهى العزاء وما هي الاشهور قليلة حتى وصل خبر آخر عبر السلطة ان الهلال الأحمر تدخل لارجاع الاسرى وكان منهم، وكتب الله له عمرا جديدا فعاد بجراحه دون تلقى العلاج الكافي لتبدأ رحلة البحث عن العافية ..
الحمد الله تشافى وعاد لفيلقه لينقل من جديد في السبعينيات الى الصحراء المغربية باعتبار فيلقه له خبرة ميدانية في الصحراء الشرقية، وبدأ المشوار من جديد مع عصابة البوليساريو، ويا ما حكى لنا عن مطاردتهم وماذا كانوا يلبسون ،وكانو يخوضون الحرب خداعا بالمكر والتسلل ليلا في تخوم وفيافي الصحراء، وجراحه القديم يؤلمه من حين لحين، ومع ذلك كان بطلا في الميدان وفي اخر المطاف درجته ومرتبته في الجندية لم تتجاوز رتبة ‘سرجان ‘ وتقاعد براتب لا يتعدى اللحظة 2000 درهم شهريا ومعاناته مع شظايا الرصاص في الرأس والصدر مازالت مستمرة ،وانضافت مصاريف العلاج والتنقل ،فكان حظه من رحلة الجندية امران الاول عظيم دافع عنه بكل صدق وبكل اخلاص وبوطنية عالية لرفع راية الوطن في الصحراء المغربية ومكابدة العدو تحت السدة العالية بالله، والأمر الثاني حظه من الألم والمرض والجراح براتب هزيل لا يكاد يسد رمق العيش وتكاليف العلاج .
لم يندم في عمله ولا على تضحياته من اجل الوطن لكن ما حز في النفس هو انه لم يُكافأ بقدر ما قدم لهذا الوطن من تضحيات رحل العمر بين الصحراء الشرقية والصحراء المغربية ،وهزلت الصحة والعافية بهجوم المرض وبراتب معيب معطوب، ومازال لحد الساعة بطانطان يعاني المرض والالم ويجر ذكريات وبطولات ماضية مازال يحن اليها رغم كل شيء.
يقول ‘احماد جرو ‘ اطال الله في عمره “في صخب المعركة، وبين أصوات المدافع، يضيع صوت الجندي بين نداءين : نداء الأب المسن العليل والأم الرؤوف، ونداء الزوجة والأبناء الذين ينتظرون طلته، فكلما اشتدّ البرد في الخنادق، يتذكّر دفء يدي والده حين كان يصحبه إلى الحقل، ويتذكّر وصيته: “كن راجل ” ، فيحاول أن يكون قويًّا كما أراد أبوه، لكنه كلما ضغط على الزناد، يشعر أن قلبه يبتعد عنه قليلًا في انتظار الفرج، وفي لحظات الهدوء القليل يضيف احماد يُخرج من جيبه صورةً صغيرة، فيها وجه أبنائه فيبتسم رغم الغبار على وجهه، ويهمس والصورة امام العين “اصبروا… سأعود، سأروي لكم كيف انتصرنا، وكيف علّمتني الحرب قيمة العناق.”
وبشعور الفخر والاعتزاز بالوطن والحرص على خدمته والدفاع عنه بكل ما يستطيع قاوم بعشقه للأرض وتاريخه وثقافته، وباعتزازهه بالانتماء إلى مجتمعه وهويته بالإخلاص في أداء المهام لتقوية الوحدة الوطنية، وتعزيز الأمن والاستقرار تحت راية سلطان البلاد عاهل البلاد المرحوم الحسن الثاني طيب الله ثراه.
الأخ الثاني الوسط ‘مبارك جرو ‘ حظه من الجندية لم يكن بأحسن حظ من اخيه الاكبر، تجند في عمر 18 سنة وما هي إلا شهور من التدريب، ليتم نقله الى الصحراء المغربية في السبعينيات ايضا بين رصاص العدو في الكر والفر، ولا يزور بيت الوالدين الا بعد ستة أشهر، تزوج وانجب ومازال في الخلاء و الفيافي، ولم يخلف موعدا مع الوطن والوطنية، وبعد سنوات عاد الفيلق للرشيدية وما هي إلا سنوات قليلة حتى عاد الفيلق للصحراء مرة ثانية لتجربته الميدانية وخبرته السلاحية، وبقي فيها حتى تقاعد براتب أيضا لا يتعدى 2000 درهم والدرجة ‘سرجان ‘فقط وبقي مدة في سياقة طاكسي صغير بالرشيدية تحمل رقم 01 لتغطية المصاريف حيث أبناؤه مازالوا في الطريق اكبرهم في المستوى الجامعي، لينتقل الى عفو الله بالصدفة والمباغتة وهو مازال طريا سنة 2021 ليخصم من الراتب اكثر من النصف لتبدأ الزوجة ‘عائشة’ الطيبة الرحلة مع الأبناء، والذين اصبحوا والحمد لله رجالا بعضهم في التعليم وبعضهم في قطاعات أخرى.
الاخ الاصغر ‘ امحمد جرو ‘ آخر العنقود من مواليد 1967 التحق بدوره بالجندية ب ترونس’ بعد نيل شهادة ‘لبروڤي ‘ وبعد شهور من التدريب تم نقله لتخوم الصحراء شابا يافعا في تخصص التواصل، يحكي انه كان يجوب التخوم بجوار الحزام الأمني غير آبه بالعدو، ولا برصاصاته الطائشة وقضى مدة في ألم الفراق والبعاد، وهو مازال مراهقا ليتم اختياره وبعض من فيلقه للمشاركة في حرب الخليج الثانية بالسعودية ،وهي تجربة جديدة في ميدان الحرب بأسلحة فتاكة جديدة، وعاد منها سالما، لكن للأسف لم ينصف كباقي أخوانه بدرجة ‘ شاف ‘ ومازال ينتظر ويطالب بتعويضات هذه الحرب هو وزملاؤه والتي استفادت منها فيالق أخرى من دول مشاركة حيث يؤكد بأنه سمع من الملحق العسكري المغربي بالسعودية سنة 1990 واثناء العودة الى ارض الوطن اكد قائد الفيلق امام التجردة المشاركة في الخليج بالثكنة العسكرية للمظليين بسلا اواخر شهر يونيو 1991 ان هذه التعويضات وصلت للمغرب وسيتوصلون بها بعد مقابلة المغفور الحسن الثاني طيب الله ثراه وهو الامر الذي لم يحصل والتعويضات بقيت في مهب الريح حسب ماقال لينتقل من جديد الى الصحراء المغربية حتى تقاعد اواخر سنة 2018 وهو الان فاعل جمعوي ومساعد اجتماعي ونفسي صاحب برنامج ل ‘نواصل الحوار’ على مواقع التواصل الاجتماعي .
اثنان من الإخوة كتب الله لهما ان يعيشا “نشوة الوطن” و’نشوة عيد الوحدة’بالقرار الأممي بإحساس عميق، والذي يحمل في طياته مجد الفخر الذي شاركوا في بنائه ميدانيا بشعور الإنسان حين يذكر وطنه أو يخدمه أو يرى مجده يعلو.
اخواني الثلاثة كتبوا لنا فخرا وعزا، رغم اننا لم نعش معاناتهم واقعا في فيافي الصحراء، عاشوا نشوة الوطنِ التي سرت في عروقهم وهم يحملون السلاح فوق المدرعات لتشتعل في قلوبهم نارَ العزّ، فكم هو جميلٌ أن يحيا المرء لأجلِ ترابه ويحرس مجده بالصدق والعهد والأمانة ودامت الصحة والعافية للحيين منهما ، والرحمة الواسعة والمغفرة للثالث منهم ، والبركة في ما خلفوه لنا وللوطن..

*زايد جرو
الرشيدية

