عبد العزيز سارت*
تحرك المهاجرون المغاربة إلى عتمة المجهول على مر ستة عقود متوالية، حاملين آلامهم ومعاناتهم مع بيئة لم تسعفهم في تحقيق أحلامهم. فقرروا المغادرة و التخلي عن جزء من حياتهم و كينونتهم على غرار بقية مجتمعات الاغتراب و إنسانية ما وراء الحدود. بيد أنهم حافظوا في صدورهم على شحنة الأحلام و قوس قزح أخضر الآمال من أجل تحقيق الذات و بناء مستقبل واعد. فتوالت موجات المهاجرين المغاربة، الذين يفوق عددهم اليوم خمسة ملايين، إما بحثا عن لقمة العيش، أو طلبا للعلم، أو هروبا من وضع سياسي خانق. فأصبحوا شعب الهجرة وأمة المنفى إسوة ببقية مجتمعات الشتات ف هني العالم.
و مهما كانت درجة نجاح العلوم الاجتماعية في تفسير تجربتي الهجرة و المنفى، تبقى الميتافيزيقا، والفلسفة عموما، و الأعمال الإبداعية الأدبية والفنية ترجمانا مرهف الحس ومعبرا تلقائيا عن متاهة المنفى و قسوة الهجرة، وسؤال الهوية و معضلة الأنا “الآخر” المختلف عرقيا و ثقافيا.
ويجمع المتتبعون لشؤون الهجرة وأهل الاختصاص، مغاربة وأجانب، على أن ما قدمه مغاربة المهجر للمغرب يعز نظيره بين الجاليات المهاجرة عبر العالم.
فعلاوة على التحويلات المالية المنتظمة، ساهمت ولا تزال أجيال المهاجرين المغاربة، بعد أن تخلت الدولة عن دورها في سياسة التنمية المحلية لعقود طويلة، في رفع البؤس عن أهلها وأقاربها و في تحسين أوضاع أحيائها و قراها و بواديها و تدعيم جمعياتها المحلية و إنجاز المشاريع التنموية وإبرام الشراكات سنة تلوى الأخرى. فتم تعبيد الطرق في البوادي و حفر الآبار، و تشييد دور اليتامى و إنشاء التعاونيات. و يتم إنجاز هذه المشاريع في أغلب الأحيان دون مساهمة، من السلطات الرسمية المحلية، التي تلح، رغم تجاهلها و غيابها طيلة مراحل الإنجاز، على حضور من يمثلها يوم التدشين و أخذ صور تذكارية لتأكيد مركزية السلطة و امتدادات السلطوية.
ثمة مساهمة تاريخية و حضارية تحفظها سجلات التاريخ لمغاربة العالم خلال سنوات الجمر و الرصاص، في فضح انتهاكات حقوق الإنسان و تزوير الانتخابات، و التضامن مع المعتقلين السياسيين و عائلاتهم، و التعريف بملفات التعذيب أمام المحافل الدولية و المنظمات الحقوقية، وفتح بيوتهم لاستقبال و إيواء المنفيين و اللاجئين، و جمع التبرعات، و تنظيم وقفات احتجاجية ولقاءات التوعية والتضامن. و يعتز نشطاء مغاربة العالم كذلك برفع راية الوطنية النبيلة بدفاعهم عن وحدة المغرب الترابية ونضالهم من أجل دولة القانون، و القطيعة مع سنوات الجمر و الرصاص والاستبداد، و الانخراط في بناء المؤسسات الديمقراطية المنشودة .
و إزاء هذه التضحيات ، تواصل الدولة المغربية تبني سياسة ترتكز حصريا على رفع حجم التحويلات المالية، وتكريس المقاربة الأمنية التي تعززت بمنظومة “الأمن الروحي” في السنوات الأخيرة، و مراقبة النسيج الجمعوي لمغاربة المهجر من أجل احتوائه وإضعافه حتى لا يدافع عن مواطنتهم و حقوقهم السياسية من قبيل المشاركة السياسية كما قررها الخطاب الملكي في 6 نونبر 2005 و تمثيلهم في المؤسسات الدستورية. ولا تزال الدولة المغربية بسفاراتها وقنصلياتها وأجهزتها تعمل على تفريخ جمعيات وهمية، على غرار الوداديات السيئة الذكر، ودعمها بالمال والإمكانيات الهائلة والتكنولوجيا الرقمية، والتي يتحكم فيها العاملون من وراء ستار، مهمتها الوحيدة إفشال و نسف كل مبادرات مغاربة العالم لتأسيس مجتمع مدني ديمقراطي مستقل. و من مبدأ النزاهة الأخلاقية لا بد من التنويه بالدور الذي تلعبه مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج، بكفاءة و خبرة عاليتين و بحس إنساني مغربي متميز.
بيد أن بعض الدراسات الرديئة والأقلام ذات النوايا المبيتة تواصل نشر أطروحة مضللة بأن مغاربة المهجر يظلون جزءا لا يتجزأ من الشعب المغربي، والأمة المغربية بشكل قار و جامد دون حسبان التجربة و مرونة القناعات الفلسفية في ضوء العيش في الخارج. و لا يدخل أصحاب هذه الاجتهادات في حساباتهم ما يعايشه مغاربة المهجر من تحولات و تغيرات بفعل الاندماج في المجتمعات الغربية، وتفاعلهم اليومي بمنظومة قيم مختلفة، و ثقافة سياسية مغايرة، و نظام اجتماعي مغاير. و يحاول أصحاب هذا الرأي الاستعانة باستحضار الروابط الوطنية التقليدية التي تميز مغاربة العالم عن غيرهم و نعتها ب “الاستثناء المغربي”. وهي روابط نجد معمارها يرتكز في أساسه على “التعلق بالثوابت و المقدسات”. فإذا كانت شريحة كبيرة من مغاربة العالم، و بالخصوص الجيل الأول قد ترعرعت و تشبعت بتلك الثوابت و المقدسات عبر التربية و التنشئة الاجتماعية وخطاب التعبئة الوطنية فإن أجيالا أخرى من شباب الجالية تلح في السؤال اليوم: أ ليست الحرية و الديمقراطية و العدل و حقوق الإنسان و المناصفة و العدالة الاجتماعية و تكافؤ الفرص قيما كونية وإنسانية سامية تستحق بدورها الالتحاق بسجل مقدساتنا و ثوابتنا التاريخية ، التي لم تعد أدبياتها تسعفنا اليوم في فهم و تفسير التوترات التي بدأت تتسلل إلى علاقة مغاربة العالم ببلدهم الأصل.
وصل التوتر إلى حد أن جل شبابنا من أوروبا و أمريكا الشمالية يرفض و صف المغرب بأنه بلده الأم، بل يعتبره وطنا أصليا تاريخيا لآبائه و أمهاته، ولا يتردد في اعتبار بلد الإقامة و طنه الأول و الأخير. هذا الشباب يعتبر نفسه أوروبيا أو أمريكيا من أصل مغربي و ليس “مغربيا خالصا” وفق مديري ملفات الهجرة في الرباط.
بيد أن تلك الأجيال الجديدة تقر بارتباطها “الرومانسي” فقط بالمغرب عبر اعتزازها باللباس التقليدي المغربي، والمائدة المغربية، والموسيقى المغربية و جغرافية المغرب و طقسه و تضاريسه و بعض الصفحات البطولية من تاريخه. لكنه ارتباط لم تعد العاصمة الرباط تشكل مركز جاذبيته. في المحصلة النهائية، هم مغاربة الشتات تجمعهم مواطنة الشتات التي بدأت تظهر ملامحها جلية يوما بعد يوم في مواقف مغاربة المهجر وفي كتابات و اجتهادات مفكرين شهد لهم التقليد الأكاديمي و الأعراف الجامعية ، خارج المغرب و داخله ، بعلو كعبهم و بمكانتهم العلمية المتميزة. لقد اضطلع صاحب مقالة “مهاجرون أم شتات : تركيب استراتيجي للعلاقة بين المغرب و مغاربة العالم” التي اعتبرتها أوساط البحث العلمي في شؤون الهجرة فتحا أكاديميا و نصا مؤسسا مرجعيا و فاصلا سيكون له ما بعده، بمهمة تاريخية، أكاديمية وأخلاقية، بإرساء تقعيد نظري متين و نحت مفاهيمي و اصطلاحي مجدد و صرامة علمية ، تستحق التنويه، في طرح الإشكاليات و تفكيكها بمنهجيات ملائمة تسائل العمق و المسكوت عنه و لا تخشى استنطاق الطابوهات. فهنيئا للشتات المغربي بهذا المعمار النظري الذي يعلن فيه عن استئناف الحياة في نبوغ مغربي جديد و مجدد، و الذي نتمنى أن يجد مكانه و مكانته بجانب الأقلام المناضلة و مراكز البحث الرصينة و التي تعد على رؤوس الأصابع، للتعريف بقضايا الشتات المغربي و مطالبه و طموحاته و إبداعاته و اجتهاداته الفكرية.
أصبح جليا أن التدبير الفاشل الذي أدارت به الدولة المغربية ملف العالقين في الداخل و الخارج، جراء جائحة كورونا، سيبقى وصمة عار على جبين حكومة السيد العثماني و جبين الدولة العميقة و حكومة الظل. و يجسد هذا الفشل الذريع تعبيرا صارخا و تجليا واقعيا لسياسة الإقصاء والاحتقار و التهميش و تكريس الحكرة التي اعتمدتها الدولة المغربية، منذ أكثر من خمسة عقود، في التعامل مع مغاربة الشتات.
و حري بنا كصوت من أصوات المجتمع المدني لمغاربة الشتات، التذكير بالارتياح الكبير الذي أثاره مضمون الخطاب الملكي في السادس من نونبر 2005 ، ولا زلنا متمسكين بفحوى مضمونه, باعتباره خارطة الطريق و دفتر التحملات لتكريس المشاركة السياسية الفعلية لمغاربة الشتات في كل ما يتعلق بملف مشاركتهم السياسية إذ نص على تمثيل مغاربة العالم في الغرفة الأولى عبر تصويتهم في الانتخابات التشريعية و الترشيح انطلاقا من دوائر انتخابية ببلدان إقامتهم.
و للأسف الشديد، لم تر هذه المشاركة السياسية النور، وأصبحت عالقة هي الأخرى في رباط عالق حيث تحالفت الدولة العميقة و القوى المعادية لمطلب الحقوق السياسية للجالية و على رأسها كثير من المقربين من المجلس الاستشاري لحقوق الانسان السابق، فقد تم دعمهم بالمال و الإمكانيات و المنصة الإعلامية للحيلولة دون تمكين مغاربة الشتات من حقوقهم السياسية التي سطرها الخطاب الملكي في 2005 و الدستور الجديد عام 2011، و فضل هذا التحالف الدفاع عن مواقعه و مصالحه الشخصية عوض الاصطفاف وراء حقوق سياسية مشروعة لمغاربة العالم. و تحايل أيضا على تحرير الرأي الإستشاري الذي تم رفعه إلى الملك بشأن تأسيس مجلس الجالية المغربية بالخارج، و الذي اعتبرناه في حينه شهادة زور و كذب على ملك البلاد، و تم بموجبه إخراج مجلس الجالية المغربية بالخارج بمنطق الزبونية و المحسوبية و وفق اللائحة السوداء و تصفية حسابات سياسية من تحت الطاولة.
لا غرابة أن تزداد مشاعر خيبة الأمل و الإحباط بين الشتات المغربي و الدولة المغربية و تظهر ملامح أزمة و توتر كبيرين بينهما بسبب تخلي الدولة عن مسؤوليتها وتنكرها لحقوقه السياسية الدستورية التي تتمتع بها جل الجاليات المهاجرة عبر العالم دون أدنى عائق . في الوقت ذاته يعرف المشهد السياسي تراجعا حقوقيا صارخا و تضييقا خانقا في مجال الحريات الأساسية تفاعل معه الشتات المغربي بالتعبير عن تضامنه مع معتقلي حراك الريف و مع الصحافيين بوعشرين و المهداوي و هاجر الريسوني و سليمان الريسوني و غيرهم.
لم تعد حقبة الأزمات المتراكمة على الرباط تقبل منطق المجارات، بل تتحرك الآن عدة أصوات و أقلام و منابر للتعبير عن المنحدرات و الزلات في سياسة الدولة المغربية. و ثمة وعي متنور و مسؤول متنام بين الشتات المغربي بضرورة تكثيف الجهود و الطاقات و الدفع إلى الأمام بمبادرات تأسيس تنظيمات دولية واسعة و قوية بأذرع سياسية أكاديمية و إعلامية قادرة على احتضان مختلف أجيالنا و تياراتنا و مشاربنا الفكرية و تنسيق مواقفنا و مرافعاتنا، بعد أن أصبح جليا أن الدولة المغربية أدارت ظهرها لنا، و تستعد من جديد لإقصائنا من المشاركة السياسية و من نسيج الوطن و المواطنة. و عندما لا تثيرالأحزاب اليسارية و اليمينية على اختلافها حتمية مشاركتنا السياسية أمام وزارة الداخلية إلا بصوت خافت، يبقى أمام النشطاء و الجمعيات الحقوقية المغربية في الخارج تحديد بدائل جديدة و تركيب ميزان قوة مغاير .
كان المغرب مجتمعا موحدا بين الداخل و الخارج ، فدفعت سياسة الرباط ، عن وعي و لا وعي ، نحو تباعد مجتمعين مغربيين متوازيين : مغرب الداخل بثوابت تقليدية و مغرب الخارج بقيم و تصورات كونية.
* رئيس المنتدى المغربي البلجيكي للتعاون و التنمية و التضامن. بلجيكا